مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

قراءة تحليلية لورشة “الأشرعة الملونة” ضمن فعاليات المهرجان البيئي با …

الفن.. أداة للتوعية البيئية

منذ 7 أشهر

158

0

قراءة تحليلية لورشة “الأشرعة الملونة” ضمن فعاليات المهرجان البيئي بالشابة

تحت إشراف الأستاذتين إيمان زرود وأمل ميساوي

أريج ذيبي*

يشكل الفن عبر تاريخ البشرية مرآة تعكس قضايا المجتمع وانشغالاته وتطلعاته. وفي عصرنا الراهن، حيث تتسارع وتيرة التغيرات البيئية وتتزايد المخاطر التي تهدد كوكبنا، أصبح الفن أداة فعالة للتوعية والحث على التغيير. فقد أظهرت الدراسات أن الفن بأنواعه المختلفة، يمتلك قدرة فريدة على الوصول إلى العقول والقلوب وتحفيز الأفراد على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه قضايا البيئة.

في هذا السياق، يأتي مهرجان مدينة الشابة، الذي نظمته جمعية صيانة وتهيئة المدينة بالتعاون مع جمعية الفنون والمحيط، كنموذج متميز لدمج الفن بالوعي البيئي. أقيم المهرجان في الفترة من 22 إلى 25 أوت 2024، وقدم مجموعة متنوعة من الورشات الفنية التي استهدفت الأطفال والشباب، هذا الجيل الصغير الذي سيضطلع بمسؤولية الحفاظ على كوكب الأرض، وتحفيزهم على التعبير عن رؤيتهم لمستقبل بيئي مستدام.

من بين هذه الورشات، أخص بالحديث ورشة الأشرعة تحت إشراف الأستاذتين إيمان زرود وأمل ميساوي، اللتين قدّمتا خلال المهرجان تجربة فريدة تجمع بين الإبداع الفني والتوعية البيئية.

جمعت الورشة 20 مشاركًا، قاموا برسم لوحات فنية على أقمشة كبيرة، ستستخدم لاحقًا كأشرعة لخمسة قوارب. وهكذا، لم يقتصر دور الشراع على كونه مجرد وسيلة للإبحار، بل تحول إلى لوحة فنية تحمل رسائل بيئية عميقة. من خلال الرسم عليها، تمكن الأطفال من التعبير عن رؤيتهم للعالم، وتحويل مخاوفهم من التلوث البيئي إلى أعمال فنية ملهمة.

إذن، لم تكن هذه التجربة مجرد نشاط ترفيهي، بل كانت تجسيدًا توعويًّا لفن التنصيب الذي يتجاوز حدود المعرض التقليدية، حتى يصل إلى الجمهور في فضاءاتهم العامة. بالتالي يكون فصل الصيف، أنسب وقت تنتصب فيه هذه الأشرعة كأعمال فنية متحركة، تزين القوارب وتنقل رسائل بيئية مهمة. هذا الخروج من رواق المعرض إلى الفضاء العام، قد ساهم في تقريب الفن من الجمهور وتحويله من مجرد متلقٍ إلى مشارك فعال في الحوار البيئي. كما يقول الفنان المعاصر أولافور إلياسون: “فن التنصيب ليس مجرد عمل فني، بل هو حدث، هو لحظة، هو تجربة. إنه دعوة للمشاهد للمشاركة في خلق المعنى”. وفي هذه الورشة تحديدًا، تجسدت الفكرة من خلال تفاعل المشاركين مع البيئة المحيطة، حيث تحولوا من مجرد متلقين إلى مبتكرين لعمل فني متكامل يتفاعل مع العناصر الطبيعية مثل الرياح والماء والضوء.

تطرح ورشة الأشرعة تساؤلات جوهرية حول دور الفن في تشكيل الوعي البيئي، وكيف يمكن استغلال الإبداع الفني لتحويل الأفكار إلى أفعال ملموسة. فكيف تطورت رمزية الشراع ضمن هذه الورشة ليتحول من كونه أداة بحرية بحتة إلى رمز ثقافي وفني يعكس التحديات البيئية المعاصرة؟ وما الآليات والتقنيات الفنية التي استُخدمت لتحويل الأشرعة إلى أعمال فنية تعزز الوعي البيئي والاجتماعي، وتدفع المجتمع نحو تبني قيم أكثر استدامة وإنسانية؟ وكيف تمكنت أعمال الأشرعة من إشراك الجمهور في تجربة تفاعلية، يتحول فيها المتلقي إلى مشارك فعال في العملية الإبداعية؟

تُعدّ ورشة الأشرعة التي أقيمت ضمن المهرجان البيئي بالشابة، تجربة فريدة تجسد تلاقي الفن والبيئة، حيث تحولت قطعة قماش بسيطة من أداة بحرية إلى لوحة فنية تسلط الضوء على مشاكل الإنسان المعاصر والتحديات البيئية التي تواجه كوكبنا. وقد نجحت في ذلك من خلال 5 أعمال فنية نصبت في شكل أشرعة بيئية. نأخذ كمثال الشراع الأول الذي تم فيه اختيار تباينات اللون الأحمر بين الداكن والفاتح، ليعبر عن مفهوم التلوث البيئي. قد يكون هذا الاختيار اللوني ليس من باب الصدفة، بل نتاجًا لعملية إبداعية مدروسة لتصوير تأثيرات الاحتراق والنار، ما يرمز إلى الأضرار البيئية الناتجة عن التلوث.
الشراع الأول: شبح التلوث
يتناول هذا الشراع من خلال تركيبة بصرية معقدة، موضوع التلوث البيئي وآثاره المدمرة على كوكب الأرض، وذلك عبر استثمار مجموعة متنوعة من التقنيات الفنية والتعبيرية، حيث تتميز تركيبته البصرية بقدرتها على إيصال رسالة قوية ومؤثرة حول أزمة التلوث. فاستخدام التباين اللوني بين الأحمر الداكن والفاتح يخلق انطباعًا بصريًّا يعكس حالة  الكوكب المأزومة. كما أن استخدام النار كرمز للتلوث يضفي على العمل انطباعًا يوحي بخطورة الوضع.
تلعب التقنيات الفنية المتنوعة المستخدمة بهذا العمل دورًا حاسمًا في تعزيز تأثيره التعبيري. فالسكب والرش والخياطة والقص والتلصيق تخلق سطحًا مركبًا يبرز الطبيعة المعقدة للتلوث وآثاره المتشابكة. كما أن استخدام الأقمشة القديمة يعكس فلسفة إعادة التدوير ويضيف بعدًا آخر إلى العمل، حيث يربط بين القضايا البيئية والاجتماعية.
صور جزيئات من الشراع الأول
تتميز هذه التركيبة كذلك بقدرتها على إثارة المشاعر والعواطف لدى المتلقي. فالعين الباكية التي تقع بقلب التركيبة تمثل رمزًا قويًّا يعبر عن حزن الكوكب ومعاناته. كما أن المشاهد الصغيرة التي تصور الأطفال وهم يقومون بأعمال بيئية إيجابية، تخلق شعورًا بالأمل والتفاؤل، وتدعو إلى العمل الجماعي لحماية البيئة.

إذن، يتجاوز هذا العمل الفني دوره كبعد جمالي ليصبح أداة تعليمية فعالة. فهو يساهم في رفع الوعي البيئي لدى الأطفال والشباب، ويشجعهم على اتخاذ إجراءات عملية لحماية البيئة، كما أنه يعزز قيم التعاون والتضامن والمسؤولية الاجتماعية.

الشراع الثاني: فجر التحول

في مرحلة أخرى، تم تصميم الشراع الثاني تحت عنوان “شراع الأمل الأول.. بداية التحول نحو بيئة أفضل”. يعكس هذا الشراع تحولًا بيئيًّا من خلال استخدام تباينات اللون الأخضر التي ترمز إلى الخصوبة والتجدد، ليمثل بذلك بزوغ الأمل في تقليل التلوث من خلال منجز يصور قصة التحول البيئي في مجموعة من المشاهد الرمزية التي تغطي سطح الشراع، والتي تتدرج من القاع إلى القمة، كل مشهد يحمل دلالات ومعاني بيئية واجتماعية بأسلوب طريف.

في أسفل الشراع، نجد مشاهد تصور أفعالًا يومية بسيطة للأطفال، كزراعة شجرة وجمع النفايات ووضعها في سلة المهملات. هذه المشاهد البسيطة تحمل في طياتها دلالات عميقة، فهي تعكس الفكرة الأساسية بأن التغيير البيئي يبدأ من الفرد، وأن أفعالًا صغيرة يمكنها أن تحدث تأثيرًا كبيرًا على البيئة. هذه المشاهد تعمل كنموذج يحتذى به للأطفال، فهي تشجعهم على المشاركة الفعالة في حماية البيئة من خلال أفعالهم اليومية.

في وسط الشراع، يظهر رسم مبتكر للأرض على شكل كائن حي يشعر ويفكر. هذا التصور غير التقليدي للأرض يعزز من فكرة أن الأرض ليست مجرد كوكب جامد، بل هي كائن حي يتفاعل مع الإنسان ويستجيب لأفعاله. إن احتضان الطفل للأرض يعبر عن الرغبة في العناية بها وحمايتها كما أنه يعكس شعورًا بالمسؤولية تجاه البيئة.

أما في الجزء العلوي، يظهر الحمام الأبيض رمزًا للسلام والنقاء. هذا الرمز يكمل الرسائل البيئية التي تحملها الأجزاء الأخرى، فهو يعبر عن الأمل في مستقبل أفضل للبيئة، حيث يسود السلام والوئام بين الإنسان والطبيعة.

أما لونيا، فيتدرج الأخضر على سطح الشراع، ما يعكس دورة الحياة والتجدد في الطبيعة. هذا التدرج اللوني يعطي شعورًا بالأمل والتفاؤل، فهو يدل على أن الطبيعة قادرة على الشفاء والتجدد إذا ما تم التعامل معها بحكمة وعناية.

عندما ينظر الأطفال إلى الشراع، فإنهم يرون انعكاسًا لذواتهم وأحلامهم. فهم يرون أنفسهم وهم يزرعون الأشجار ويجمعون النفايات، وهذا يعزز من شعورهم بالقدرة على إحداث تغيير إيجابي في العالم. هذا الشراع يعكس القيم والمبادئ التي يجب أن يتحلى بها كل فرد من أجل بناء مستقبل مستدام.

صور جزيئات من الشراع الثاني

 

 

الشراع الثالث: الرؤية المستدامة بألوان الأمل

أما الشراع الثالث في هذه الورشة فيمثل لوحة فنية تعبيرية عُنوِنت ب “الرؤية المستدامة بألوان الأمل”. وقد تميزت بتدرجات اللون الأزرق التي تغطي سطحها والتي تتراوح بين الداكن والفاتح، ما يخلق خلفية رمزية تعكس أبعادًا معقدة.

يعكس اللون الأزرق الداكن في الشراع إحساسًا بالاستقرار والعمق، ما يوفر قاعدة صلبة للرسالة البيئية التي يحملها الشراع. في المقابل، يرمز اللون الأزرق الفاتح إلى النقاء والهدوء، ويعبر عن الأمل في مستقبل أفضل. هذا التداخل بين اللونين الداكن والفاتح يخلق تدرجًا يعكس رحلة الإنسان نحو التجديد والتحول البيئي.

تظهر في وسط الشراع مجموعة من الأطفال وهم يحتضنون كوكب الأرض، ما يبرز العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة. هذا المشهد يرمز إلى المسؤولية المشتركة التي تقع على عاتق جميع الأفراد في حماية كوكبنا. كما أن الكتابة الخطية “الأرض أمانة فلنحافظ عليها” تؤكد على أهمية الحفاظ على البيئة.

كذلك تزين الفراشات بألوانها الزاهية الجزء العلوي من الشراع، ما يضفي على اللوحة أجواءً من الاحتفال والتفاؤل. حيث ترمز الفراشات إلى التحول والتجدد، وهي تمثل الأمل في مستقبل أفضل، حيث تزدهر الطبيعة وتستعيد حيويتها.

إذن، يبرز من خلال الشراع الثالث دعوة بالمحافظة على البيئة، وتؤكد على دور كل فرد في تحقيق هذا الهدف. كما أنها تعبر عن الأمل في مستقبل أفضل، حيث تسود العلاقة التكاملية بين الإنسان وبيئته.

صور جزئيات من الشراع الثالث.

أما بالنسبة للشراعين الرابع والخامس فتشكل لوحات فنية عملاقة غنية بالرمزية، تعكس وعيًا بيئيًا متناميًا لدى المجتمع. من خلال ألوان زاهية وأشكال تعبيرية تتشكل دعوة لتقدير جمال الطبيعة والحفاظ عليها.

الشراع الرابع يصور الطبيعة البرية بألوانها الخلابة داعيًا إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي. كذلك، الرسومات التعبيرية للأشجار والكواكب، إلى جانب العبارات الحازمة التي تدعو إلى حماية البيئة، تتشكل لغة بصرية قوية تصل إلى قلوب الناس. بينما يغوص الشراع الخامس في أعماق البحار، ليبرز جمال الحياة البحرية وتنوعها، مع تسليط الضوء على التهديدات التي تواجهها. 

يقدم هذا الشراع  لوحة فنية بحرية غنية بالرمزية، حيث يهيمن اللون الأحمر النابض بالحياة على اللوحة، معرجًا على تنوع الأشكال البحرية التي تسبح بحرية في أعماق المحيط. ومع ذلك، تتخلل هذه الأشكال بعض العناصر المشوهة التي تشير إلى تهديدات تواجه الحياة البحرية. يذكرنا هذا التناقض بالجمال والدمار بأن الإنسان جزء لا يتجزأ من النظام البيئي، وأن أفعاله لها عواقب على الكوكب. يمكن القول إن الشراع الخامس هو دعوة بصرية إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة، وحث على اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المحيطات والحفاظ على التنوع البيولوجي البحري.

يتداخل في كلا الشراعين الجمال مع القلق البيئي، حيث يصوران الطبيعة في أبهى صورها، وفي الوقت نفسه يحذران من التحديات التي تواجهها. إن هذه اللوحات الفنية ليست مجرد أعمال جمالية، بل هي رسائل واضحة تدعو إلى إعادة النظر في علاقتنا بالبيئة، والعمل على حمايتها للأجيال القادمة. من خلال هذا الفن الجماعي، يتم تحويل القضية البيئية إلى قضية مجتمعية تهم الجميع، وتشجع على المشاركة الفعالة في الحفاظ على كوكبنا.

صور الشراع الرابع والخامس

 

 

في الختام، يبرز الفن البيئي كأداة بالغة الأهمية في حوارنا المعاصر مع البيئة، تتعدى قيمة الأعمال الفنية البيئية الإطار الجمالي التقليدي لتصل إلى مستوى أعمق من التفاعل والتأثير. من خلال استغلال قوة الإبداع والتعبير الفني، وتساهم هذه الأعمال في تشكيل وعي بيئي عميق لدى الأفراد والمجتمعات، وتدفع نحو تبني سلوكيات أكثر استدامة. وتمثل ورشة الأشرعة مثالًا حيًّا على هذا التوجه، حيث جمعت بين الإبداع الفني والوعي البيئي بطريقة مبتكرة. لقد أثبتت هذه الورشة أن الفن قادر على تحويل المساحات العامة إلى منصات للتعبير عن القضايا البيئية، وتحفيز الحوار المجتمعي حول أهمية الحفاظ على البيئة. كما سلطت الضوء على دور الفن في بناء جسور التواصل بين الفنانين والجمهور والبيئة الطبيعية.

علاوة على ذلك، أثبتت الورشة أن الفن ليس مجرد ترف، بل هو أداة قوية لبناء مستقبل أفضل. من خلال دمج الإبداع الفني بالوعي البيئي، تمكنت هذه الورشة من خلق حوار مجتمعي حول قضايا ملحة تواجه كوكبنا. إن هذا النموذج الناجح يفتح آفاقًا جديدة للتعاون بين الفنانين ومختلف القطاعات، ويعزز دور الفن في حل التحديات البيئية، ما يساهم في بناء مجتمعات أكثر وعيًا ومستقبل مستدام للأجيال القادمة. فكيف يمكن أن تسهم مثل هذه المهرجانات في تعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والمدنية، في مجال الحفاظ على البيئة وفي بناء مجتمع فني بيئي تفاعلي؟
صور الأشرعة: 5 أشرعة بيئية
* السيرة الذاتية: متحصلة على شهادة الأستاذية في الفنون المرئية، باحثة أكاديمية في مرحلة الماجستير بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس، تونس. فنانة تشكيلية وناشطة في المجال الثقافي شاركت في عدد من  المعارض الجماعية في مختلف الاختصاصات؛ منها الخزف والخط العربي، إضافة إلى المشاركة في مختلف التظاهرات والورش الفنية.
*باحثة في الفنون التشكيلية_تونس

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود