573
0
1066
1
598
0
864
1
731
0
77
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12018
0
10886
0
10365
0
9243
5
7833
0

سعد افوغال*
حَيْعَلَ منادي القلب إلى فاس يستجدي رَوحها وريحانها، ويستخف القلب للحاق بموكب المحبة في ركبها ورحالها، وهل الكل إلا في فاس، وهل الأهل إلا أهلها.
طار قلبي خفيف الحمل مبتسمًا مسرورًا، كيف لا؟ وهي فاس العلم، فاس الأولياء، فاس الأحباب والأصحاب، فاس أرباب القلوب، وكلما استخفني الشوق إلى فاس؛ زعمت أمري وعقدت أحزمتي وحملت أمتعتي، وأرخيت زمام القلب وسَرَّحت لجامه ليسير منعتقًا متحررًا.
خرجت من البيت والشوق يحذوني للقيا أصحابي، وركبت القطار والشوق يحذوني، وكلما وقف القطار عند محطة من المحطات؛ زاد ذلك الشوق فوق ما كان، ويسخطني ذلك التوقف الذي لا يجاوز الدقيقتين، وهل حقًّا هما دقيقتان بمقياس قلبي؟!
ألتفت يمنة ويسرة وأنظر في وجوه المسافرين المتمعرة التي قتلها الملل وأضناها طول الجلوس على مقاعد القطار المتقابلة، يقابل بعضهم بعضًا ثلاث ساعات متواصلة، وكان أحدهم يسرق النظرات إلى من يقابله أو من يقابلونه جميعًا، فكلما التفت إليه أحدهم نظر في الآخر أو في سقف القطار، لا أعلم هل كان يحاول إلهاء نفسه أو تسليتها، مهما كان فهو حقًا أمر مضحك.
كنت أنظر إليهم وأتساءل: ما نية كل واحد منهم في الذهاب إلى فاس؟ هل هم مشتاقون أيضًا؟ هل هم في مثل فرحي وأنسي؟ لا أعلم، لكن الذي علمته يقينًا أني كنت أخف القوم روحًا، وأجنحهم إلى الشوق، وأرفعهم همة، كان جل وقتي في القطار مرتكزًا على القراءة لمحنة رجل قضى في سجن غوانتنامو أربعة عشر عامًا، وكم لمت نفسي وحقرتها على ظنها أنها مر عليها الكثير من المصائب، وما الذي مرت به مقابل ما مر به هذا الرجل وأمثاله ممن عُلم حالهم.
لم أشعر بالوقت حتى اقتربت من فاس، أنظر من خلف زجاج النافذة المليء بالغبار بعين المترقب المولع، وتأتي عليَّ اللحظة التي تراءت لي فيها مشارف المدينة وأطراف دورها التي تربط الأرض بالسماء، طاف قلبي تلك اللحظة حول فاس وأزقة المدينة العتيقة، ومر في مشهده الاعتباري بين جامع القرويين وجامع الأندلس، متسورًا قنطرة الوادي الفاصل بين العدوتين العتيقتين، إنه مشهد يريد المرء ألا يستفيق من مرآه ولو لم يكن إلا في جهاز ذاكرته.
توقف القطار فتوقفَتْ معه دواليب التفكير، لتخرج من عالم الغيوب إلى عالم الشهود، رأيت المسافرين وهم مسرعون للخروج من عالم القطار الممل، يسابق ضعيفهم قويهم كأنهم في مضمار حلبات العدو السريع، فلم أر لي بدًّا من مزاحمة الركاب في دهليز القطار بجسمي النحيف، مؤملًا الوصول إلى باب المقصورة الضيق قبل أي أحد، لأنه من تمام العدل أن أمر أولهم لِما أحمل من أشواقي وتحناني.
خرجت من القطار وأنا أستنشق هوى فاس وهواءها، هواء يجمع التاريخ من عهد المؤسس إلى يومها هذا، حضارة وعلم وعزة وقوة، تستشعر وأنت تجول في فاس أنك تجوب الحضارات والثقافات مخترقًا حجاب الزمان والمكان، تستشعر نفحات المرابطين وجهادهم، وقوة الموحدين وسلطانهم، وعلم المرينيين وآثارهم، وعزة السعديين التي شهدت بها جماجم البرتغاليين وأشلاءهم. تجوب المدينة العتيقة فتستهويك زخارفها وفسيفساؤها، دقة صانع وبراعة حرفي، وحضارة أمة طواها التاريخ تحت ظلاله.
تجول.. فتمضي بك قدماك دون شعور منك إلى مهد العلم ومعهد العلماء، إلى المكان الذي ملأ الدنيا علمًا ونورًا، فكان فيها ملء السمع والبصر وما زال، إلى ذلك المسجد الكبير الحافل بورثة الأنبياء، إلى أقدم جامعة في تاريخ البشرية، إلى جامع القرويين المحروس حماه الله، يجذبك إليه دون أن تشعر كأنه يناديك إليه، تمشي تشق الأزقة مهرولًا كالمجنون باحثًا عن هذه العظمة المتجسدة في ذلك البناء الشامخ، تمضي إلى أن تصل إلى باب الورد، وإن منظره ليهمس لك بأمجاد التاريخ وأنجاد العظماء. من هنا مر أبو عمران الفاسي، من هنا مر ابن رشد وابن طفيل وابن خلدون، من هنا مر ابن حِرزِهم وابن عاشر ومَيَّارة وابن العربي المعافري، من هنا مر الأكابر الذين سارت بخبر أمجادهم الركبان، ولا أستطيع وصف ذلك الشعور الذي يعتري المرء وهو يصلي ركعتي التحية في هذه البقعة المباركة، تجول عيناك في أركان المسجد وزواياه فترى الكراسي العلمية متناثرة تملأ جنباته، فتخيل لك أطياف طلبة العلم والعلماء ممن مضوا، تحس بعظمة العلم دون أن تفتح كتابًا، وكأن المسجد يعلم كل من يصلي فيه فلا يخرج أحدهم دون فائدة أو لطيفة، ترى صفحات مختصر الشيخ خليل وصحيح مسلم وجمع الجوامع تتلى في نواميس عقلك بين يدي العلماء، وترى في باحة خيالك الواسعة سجالات الطلبة ونقاشاتهم في مسألة المالكية في الإرث، أو التحسين والتقبيح العقليين في الكلام، أو العلل في الحديث، وغيرها من مسائل المعقول والمنقول، ومسائل الطب والحساب والكيمياء، ومما يدخل في العلم بناموس الله تعالى، لا أدري، هل كل من يدخل القرويين يستشعر هذا؟
هل يعرفون هذه العلوم وهؤلاء الأعلام؟
لا يمكن أن يعرف كل الناس ذلك، فالعلم رحم بين أهله، لكن الشيء الوحيد الذي أنا متيقن منه؛ أن كل من دخل القرويين جاهلًا كان أو عالمًا، يستعشر جلالة العلم وهيبته.
*كاتب من المغرب
التعليقات