مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

محمد جبران* في ليلة مبهمة خرجت من المنزل.. إلى أين؟ لا أدري! ساقتني قدماي إلى مق …

حافلة البلد

منذ 9 أشهر

360

0

محمد جبران*

في ليلة مبهمة خرجت من المنزل.. إلى أين؟ لا أدري! ساقتني قدماي إلى مقبرة مجاورة. “السلام عليكم دار قوم مؤمنين”.

المكان موحش، فوضى من العظام. غصت داخل الزمان، أحاطني أنين الأرواح وحديث الموتى. أمسكت بجمجمة، تحسسها بيدي، أدخلت أصابعي في تجاويف العينين، رفعتها إلى مستوى بصري، تساقط منها بقايا أتربه وعناكب ميتة.
داهمتني التساؤلات:
لمن تكون يا ترى؟ لوزير.. لعامل بسيط.. لغني.. لفقير.. لظالم أو مظلوم؟! هل يتنعم صاحبها في الجنة أم يتعذب في النار. متى تنغرس رؤوسنا المحشوة غرورًا بجوارها؟ اليوم.. غدًا.. بعد عام.. أقل أكثر؟

رميتها على الأرض ومشيت، سمعت صوت حطامها خلفي، ربما وقعت على صخرة، لم ألتفت للوراء.
خرجت من عالم الأموات إلى عالم الأحياء، ركبت حافلة البلد، لا أدري إلى أي عصر تنتمي هذه السيارات وفي أي بلد صنعت، شاهدت مثيلاتها في مدن: كاراكاس، دلهي ومانيلا. سلكت بنا الطرق مسرعة، محطمة كل قواعد السير. بعد صراع مع الصداع والغثيان، حطت بنا الرحلة في وسط البلد. عمارات وبنايات شاهقة يكسوها الرخام الفاخر والزجاج المصقول.

ازدحام بشري في كل مكان، اختلاط والتحام بين أجساد النساء والرجال.

أصوات نشاز للبائعين المتجولين بلغات متنوعة، متداخلة وغير مفهومة، بضائع من الهند، والصين، وتايلاند. جلست علي مقعد أسمنتي بقرب بناية شاهقة، بقيت لحظات أتفرس وجوه المارة محاولا قراءتها.

جلس بجانبي رجل وامرأة من جنسية شرق أسيوية. زوجان.. صديقان.. لا أعلم، لكن بينهما حميمية دافئة.
ظلت تتبدل أمامي الوجوه وتتغير في أمواج متلاحقة، أشكال وألوان متباينة، أنهك بعضها التعب، وارتسمت على الأخرى حمرة العافية. هذه الملامح تخفي ورائها: المجرم الخطير، العاشق المتلهف، السعيد، المهموم.
مرت أمامي امرأة ممتلئة القوام، تمشي بغنج الغواني وقد أسدلت على وجهها غطاء أسود شفاف يسمح للرائي بمشاهدة جمالها الأخاذ وأنوثتها الطاغية من خلفه.

لماذا عمدت إلى فعل ذلك؟ ربما للتباهي بحسنها أو قصد الإغواء!
لم أهنأ بالمقام، فلم يكف الحمام عن إسقاط رغوته المزعجة على ملابسي. مسحت ثوبي واتجهت إلى داخل البناية.

يا لروعة المكان! استقبلني هواء عليل ونسيم بارد. روائح متنوعة: بخور شرقي، بن برازيلي، وعطور باريسية صادرة من نساء متأنقات. أحسست كأن قدميّ ترفعان جسدي في الهواء، تزفه ليطير متتبعًا تلك الروائح، اصطدمت بالسلم الكهربائي المتحرك ووقعت أرضًا.
قهقهات وضحكات صدرت من خلفي.. استدرت للوراء، مجموعة من الشبان راق لهم المنظر، ولم يمنعهم ذلك من مساعدتي.
التقطت شماغي وعقالي وهممت بالمغادرة.
– شكرًا يا شباب.
– عفوًا يا عم.
يا عم! لفظه لم أعهدها، لقد أنستني ألمي.
ابتعدت عنهم قليلًا.. ألصقت وجهي بزجاج محل ساعات فاخرة. تفحصت وجهي، مررت بيدي عليه.
يا إلهي، ما هذه الأخاديد الغائرة والنتوءات!
بدا لي وجهي كأنه خاض معركة مع الزمن غير متكافئة تركت آثارها على ملامحه. يا لسوء حظي! حتى الصبغات والألوان لم تخف منابت الشيب. اقترب مني بائع الساعات وسألني:
أي خدمة يا عم؟ لم أحفل به. تركت وجهي الذي لا أريده على صفحة المرايا ومضيت.
بدت على يساري لوحة نيون كتب عليها:
بيت الدونات. دلفت داخلا المحل، شاهدت أطايب الحلويات. سألت البائع:
لو سمحت هذه بكم؟
– هذه؟ أشار بيده.
– لا.. لا.. هذه، المغطاة بالشكولاتة.
– بسبع ريال، أجابني البائع.
– أعطني واحدة.
– حاضر.
أدخلها مع مجموعة مناديل في كيس ورقي.
– تفضل سيدي.

– شكرًا.
اتجهت إلى بهو المبنى. بحثت عن مكان للجلوس. ما إن هممت بالجلوس على أحد الكراسي حتى رن جرس الإنذار وتوقف، ثم تبعها رنات متقطعة. سمعت صرخات من بعيد؛ حريق، حريق. تسارعت بارتباك شديد حركة المتسوقين، اكتظت أبواب الخروج بحشود الناس، وتدافعوا بشكل دائري.
بدأ النساء في العويل والأطفال بالبكاء.

قوة مغناطيسية جذبتني عنوة إلى عمق الدائرة البشرية.

طارت الدونات في الهواء ولم أتذوق طعمها بعد، لحق بها الكيس والمناديل.
تراءت لي الحشود هياكل عظمية متحركة. يا الله! هل دقت ساعة النهاية؟! أصبت بدوار، لم أتمالك نفسي وسقطت بعنف على الأرض الصلبة.

هرب مني رأسي وهربت أيضا أطرافي.
بكيت، ناديت من يجمع أشلائي.. فلم أعد أملك جهدًا لمقاومة الموت.

 

*كاتب من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود