عبدالعظيم محمد الضامن*
حينما تعايش فنانًا يصنع عمله الفني منذ الصفر، تعلم جيدًا ماذا يريد أن يقدم ضمن محترفه الفني، ولحسن حظي زارني الفنان عبدالله إدريس قبيل ثلاثة عقود من الزمن، ومكثنا سويًا في محترف اخترت له بستانًا أخضر وسط جزيرة تاروت ليكون موقعًا محرضًا للإبداع والتأمل.
حرصت حينها أن أستلهم من هذا الفنان عفويته وقدرته الإبداعية، فبمجرد أن يبدأ تبدأ تتحرك أنامله بكل عفوية وانسجام ولا يتوقف، منذ بدايات الفنان عبدالله إدريس وهو يبحث عن العلاقة الروحية بين العناصر الآدمية التي ينحتها على سطح اللوحة، من هنا استرجعت ذاكرتي بمفهوم الرسوم الصخرية التي تعتمد بالدرجة الأولى على الحفر بأدوات حادة على سطح الصخور الجبلية، وهو ما يفعله عبدالله إدريس تمامًا، حيث يتمتع بغزارة الإنتاج وصدق المشاعر فيما ينتجه من أعمال فنية، وهو شحيح في اللون، وأحيانًا تجد ألوانه ذات اللون الواحد إلا في جزء بسيط من اللوحة، قليل ما يستخدم الفرشاة في التلوين، يستمتع وهو يلامس اللون بيده، يداعبها، يستشعر بدفئها، يحتويها بحب، ومن هنا كانت المقاربة بين ما ينتجه الفنان عبدالله إدريس وما أنتجه الفنان في العصور الصخرية، كذلك في عصر ظهور المنمنمات.
(يعد تاريخ فنون الرسوم الصخرية من أكثر الأمور صعوبة، حيث لا مصدر علمي معتمد يساعد في التأريخ لفنون الرسوم الصخرية في المملكة العربية السعودية، ذلك أن أغلب الرسوم الصخرية تقع ضمن مواقع مكشوفة وليس لها تقريبًا أي دلائل تاريخية أو أثرية في البيئة المحيطة بها.
يشتمل موقع حمى على مجموعة من القيم الثقافية والفنية، حيث يوجد في المنطقة أكثر من 13 موقعًا يضم 550 لوحة فن صخري تحوي كثيرًا من النقوش والرسوم الصخرية، منها رسوم لمناظر صيد وراعي وأشكال آدمية رسمات بأكبر من الحجم الطبيعي وترى ملامح وجوههم وملابسهم، كما يرى ارتداء الأشخاص غطاء على الرأس، كما تبدو لحى الرجال واضحة، وحول أعناق الأشخاص عقود وأطواق، كما يلحظ ارتداء بعض الرجال خلاخيل في أرجلهم، لعلها لإحداث صوت يتناسب مع حركات الرقص والموسيقى، وتقتصر الملابس على لباس قصير يتمثل في إزار يلف حول الوسط، وتبدو الأسلحة في المناظر التي تمثل القتال أو الصيد في الغالب على هيئة رماح تزد أعوادها من الوسط بزخارف، إلى جانب الرماح تظهر في الرسوم تروس وأقواس وسهام وغيرها، كما توجد رسوم أخرى تظهر فيها أدوات أخرى مثل السكاكين والأنصال.
كما تشمل بعض النقوش مناظر مجموعات تؤدي رقصات مع آلات موسيقية تشبه الربابة، ويوجد في الموقع عدد من نقوش أشهرها نقش الملك يوسف آسار الموجود في جبل حماطة، وقد سجل فيه الملك يوسف انتصاره على الأحباش سنة 518 للميلاد).
- من هنا نلحظ جيدًا أن ما نقشه الفنان في العصر الحجري كان للتعبير عن الرغبة في توثيق الحياة التي عاشوها، وتعرفنا أكثر على تلك الحياة من خلال الرسومات، أم في أعمال الفنان عبدالله إدريس، فكان ينقلنا إلى عالم المجهول في غياهب الروح البشرية، حيث تحدثنا تلك الأعمال عن وجدان الفنان وقراءته لواقع المجتمع المحيط فيه، وكان وما زال هو أقرب فنان استنهض الفنون الصخرية، لربما في العقل الباطني وما تمتلكه الذكرة في اللاوعي، لينتج تلك الأعمال المحفورة على سطح اللوحة المليء بالمواد البارزة ليستخدم الغائر والبارز في السطوح، لينقلنا إلى عالمه الجمالي. هنا يقودني للعلاقة بين ما ينتجه الفنان عبدالله إدريس وما أنتجه الواسطي. (يعكس فن الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي حيوية حقبة بالغة الوهج وبالغة الأهمية في تاريخ التشكيل العربي، فالواسطي يتميز بأنه أنتج فنًا أخذ مادته من النشاط الاجتماعي المرتبط بالثقافة الشعبية. فمقامات الحريري التي استند عليها الواسطي في إنتاج تصاويره، مقامات تعليمية ذات صبغة فلسفية روحانية مبسطة، فحكاياتها التي نسجت حول شخصية أبو زيد السروجي كانت مجازًا أدبيًا تم فيه مزج فلسفة الحياة والحكمة والطرفة بالسرد القصصي).
- وتلك الصبغة الفلسفية هي سر أعمال الفنان القدير عبدالله إدريس، الذي استخدم في رسمه اختزال الأشكال الآدمية بروحانية مبسطة للغاية، ونسج حكاياته ورواها بصمت، وها نحن اليوم نحاول جاهدين الحديث عما صمت عنه الفنان لنبوح بتفاصيله، لعلنا نكون وفقنا فيما اجتهدنا فيه من طرح المقاربات.



المراجع:
- روائع القيمة العالمية والمظاهر الحضارية في موقع حمى الثقافي – الدكتور/ ضيف الله العتيبي.
- الواسطي في منظور السعي لتوطين الحداثة التشكيلية – د. النور أحمد.
التعليقات