مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

سعد البردي* في الطابق الرابع من بنايةٍ قديمة لا تتنفّس إلا عند الفجر، كانت تعيش …

مرآة النافذة

منذ 4 أشهر

208

1

سعد البردي*

في الطابق الرابع من بنايةٍ قديمة لا تتنفّس إلا عند الفجر، كانت تعيش امرأةٌ وحيدة تُدعى نَدى. لم تكن تعرف إن كانت حزينة أم سعيدة، لكنها كانت تؤمن بشيءٍ غامض اسمه “الاحتمال”، وتضعه كلّ صباحٍ على مائدتها كأنّه قهوة مُرّة لا تُشرب، بل تُشمّ فقط.

كانت نافذتها تطلّ على جدار رماديّ صامت. لا شجرة، لا سماء، لا عابرون. جدار فقط. لكنها لم تكن تراه جدارًا، بل مرآة مشروخة. وفي كل شرخٍ فيه، كانت ترى احتمالًا ضائعًا من حياتها.

في أحد الصباحات، بينما كانت تقرأ كتابًا لفيلسوفٍ مجهول عن “الحقيقة التي تمشي على رؤوسها”، رأت على الجدار ظلّ رجل. ليس له ملامح، لكن حضوره كان صاخبًا كأنّه صمتُ الموسيقى. لم يختفِ الظل. كل يوم، كان يجيء عند الساعة ذاتها، ويقف صامتًا، ثم يرحل دون أن يلتفت.

راودها شعورٌ أن الحياة ليست شيئًا يُعاش، بل شيئًا يُشاهد، وأنها تعيش فيما يشبه قاعة متحف معلّقة بين اللوحات. كلّ من فيها لوحة: النافذة، الكرسي، فنجان القهوة، حتى وحدتها.

مرّت أسابيع، حتى قرّرت أن تكلّمه.

كتبت على الجدار، بأطراف أناملها المرتعشة:

من أنت؟

في اليوم التالي، وجدت عبارة صغيرة مكتوبة في الشقّ ذاته:

أنا من لم يحدث لكِ.

ارتجف قلبها. ظلّت طوال الليل تحدّق في اللا شيء، تتلمّس احتمالاتٍ لم تولد، تعيد تركيب حياتها، كما يُعاد ترميم لوحة دُهنت فوقها ألف طبقة من النسيان.

في اليوم التالي، لم يأتِ الظل.

انتظرته أيامًا، أسابيع، شهورًا.

ثم فهمت.

الاحتمالات لا تزورنا لتبقى، بل لتُثبت أن الحياة ليست ناقصة، بل مكتفية بناقصها. وأن أجمل ما لم نعشه، هو ما يجعل ما عشناه ممكنًا.

أغلقت الكتاب. سكبت القهوة. ثم ابتسمت للمرآة التي على هيئة جدار.

*كاتب من السعودية 

التعليقات

  1. يقول هوازن:

    قرأتُ نفسي في قصتك
    شكراً لك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود