605
3
528
0
524
0
859
7
1219
0
43
0
133
0
204
0
89
1
44
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12026
0
11241
0
10607
0
9546
5
7991
0
إعداد: سلوى الأنصاري
في الزاويةِ القديمة من القلبِ المكي، تحديدًا في الحوافِّ المطلةِ على الحرم الشريف من الناحية الشمالية جهة باب السلام، حيث لا يفصل بينك وبين الكعبة سوى أن تمدَّ قلبك اليها لتعانقها، كان هناك سوقٌ تعرفه الأرواح قبل العيون.
سوقٌ شعبيٌّ متلاصقٌ بالقداسة، يحتضن البسطاء، ويضجُّ بالحكايات.
يمرّ به العابرون، فيغرقون في ضجيجٍ ليس ككل ضجيج، بل صدى الحياة والتكبيرات والدعوات المتواترة بجميع اللغات.
سوقٌ كان يهمس عند أعتاب الحرم، ثم غاب جسده وبقيت روحه تسكن الذاكرة.
في قلبِ مكةَ المكرمة، حيث تتنفس الأزقةُ عبق التاريخ، وتتشابك الأرواحُ مع الجدران، وقف ذلك السوق ذات يوم كسوقٍ عتيقٍ من أحياء الزمن النبيل، سوقٌ لا يعرف الزيف، ولا تسكنه الحداثة الصاخبة، بل يحتفظ في أضلعه بصوت الحنين.
سوقٌ شعبيٌّ يلتصق بروح مكة التصاق المآذن بالسماء، يطلّ على الحرم لا كبناية، بل كقلبٍ نابضٍ يخفق مع دعاء الزائرين وتكبيرات الحجيج.
إن مررتَ يومًا بأزقّة مكة القديمة، سيهمس لك بحكاية من قلبه المتدفق بالذكريات.
ويلتقط لك صورة، ويعزف لك لحنًا يخبرك انه كان هنا.
في ذلك الزقاق الضيّق الذي يحمل روحًا نابضة بالحكايات.. وقفت “المدعى” ذات يوم لا كسوق من أسواق مكة، بل كحالةٍ شعورية، ومتحفٍ مفتوحٍ على الهواء الطلق أمام جموع الرحمن وزائريه، تهمس جدرانُه بحكاياتٍ مضت وأقدامٍ مرّت، وضحكاتٍ ما زالت تتردّد في جنبات الذكريات.
في ذلك المكان لا يُقاس الزمنُ بالساعات، بل بخطى العابرين، وملامح الوجوه التي حفظتها أبواب البيوت الخشبيّة، تلك الأبواب التي لطالما اتكأ عليها القادمون إلى مكة المكرمة والمغادرون من باب السلام.
في ذلك السوق لا شيء عابر.. كلُّ شيءٍ يُرى ويُروى.. المصابيح التي تعلّقت كنجومٍ صغيرةٍ في سقف الأزقة، الرواشين المزخرفة التي تطلّ بخجل على ساحة الحرم ورائحة الخبز التي تسبق خطوات الأمهات.
لا شيء حديث في ذلك السوق، بل عبق الماضي يملأ المكان. أطفالٌ يلعبون في الساحات الصغيرة، ليحلقوا في ساحات الحرم كحمام سلام، صوت المعتمرين والحجاج يملأ المكان، ومحلات صغيرة تبيع العطور، واللبان، والمسابح، وجرار صغيرة مليئة بماء زمزم وكأنها تخبر القادمون أن كل ما يباع هنا وتحملوه معكم هو ذكرى خالدة من ارض الحرم.
عندما تغيب الشمس، يتحوّل السوق إلى لوحةٍ هادئة، تكتسي بلون البرتقال، وتكتظّ بصوت العشاء، تلك المجالس الروحانية التي لا تُقاس بثمن في ساحات الحرم.
عندما تمشي في طرقاتها، ترافقك روائح القهوة المكية، وخبز التنور، وصوت مؤذن الحرم بتردّد أصدائه بين الجبال.
وتختلط معه أصوات الباعة بنداءات وأهازيج مختلفة، وتتماوج روائح البخور مع عرق الحجاج المتعبين، العائدين من الطواف بخطواتٍ مثقلةٍ بالإيمان.
نجد بها بيوتًا متلاصقة، يتكئ بعضها على بعض كما تتكئ الأرواح على الحب.
هناك في أحد أزقتها، يجلس رجلٌ مسنّ على حصيرٍ أمام باب بيته، وفي يده مسبحة، وهو يردد إحدى كسرات عابد الحربي:
أصحابنا بعضهم ديكور
فنان ف الهرج والمظهر
والبعض الآخر يشعشع نور
وقت الشدايد لنا يظهر
ويرد عليه العم سراج:
الله يجازي الظروف بخير
تكشف لنا معدن الأصحاب
الأصلي ما يقبل التغيير
أما الردي فص ملح وذاب
ويهز رأسه ثالثهما العم علي بإحدى كسرات محمد السحيمي:
بعض البشر شوفته تعجبك
لا شفت شخصه وديكوره
وفي ساعة الضيق ما ينفعك
وتحتار في مظهر الصورة
وتمتزج تلك الكسرات بضحكاتهم، وينطلقون نحو القشاشية للوضوء للذهاب لصلاة المغرب.
وعلى الرغم من تغيّر الزمان، وبروز الأبراج العالية في مكانه، يبقى ذلك السوق معلّقًا في الذاكرة، مثل صورة قديمة في قلب ألبوم الحياة، لا يبهت لونها، بل يزداد عمقها مع كل تأمّل.
المدعى ليست مجرد اسمٍ في خريطة مكة، بل أثرٌ من آثارها العاطفية، تلك التي تُدرج في الدلائل السياحية، وتسكن قلب المكان والإنسان
كانت الأزقة ضيقة، لكنّها تتّسع للعالم كلّه.
وكانت المحال صغيرة، لكنها تفيض بعطايا القلوب وابتسامة مكيٍّ لا تشترى.
في ذلك السوق، عرفت مكة وجهها الشعبي البسيط، حيث يتجاور الجمال والفقر، والتقوى والكسب، والسجادة بجوار العطر. مكانٌ تختبئ فيه القصص خلف كل ستارة، والحكايات خلف كل عتبة.
تقول الدكتورة حصة الحارثي:
لي في سوق المدعى ذكريات لا تُنسى.. ارتبطت بأولى خطواتي بعيدًا عن حضن الأهل.. في سباق جميل وراء الطموح وبناء المستقبل في جامعة أم القرى.
ومن أفضال الجامعة أنها كانت تتكفل بنقل طالبات السكن الداخلي في رحلات أسبوعية إلى الحرم المكي الشريف، حيث كان هذا السوق لقربه الشديد يعتبر جزءًا من الحرم، ندخله بعد الانتهاء من أداء العمرة وأول ما يقابلنا فيه روائح البخور والعطور الشرقية المختلطة بنسمات باردة، تتسرب من بين الدكاكين الصغيرة رغم حرارة جو مكة. وما زالت الذاكرة تختزن أصوات الباعة الممزوجة بصلصلة الأواني النحاسية وطقطقة المسابح، وكأني بتلك الأصوات لا تهدأ إلا حين تصدح مآذن الحرم الشريف بالأذان الشجي.
وينشد لنا الفنان التشكيلي فهد باسودان إحدى كسراته التي كتبها بحنينه لذلك السوق فيقول:
المدعى سوق قديمة مشهورة
مليئة بالحسنات والذكريات ميسورة
تجمع الناس من كل فج مقصورة
فيها الأماني تتحقق والقلوب مسرورة
تاريخها يبقى رغم الزمن مبرورة
في الذاكرة تبقى ذكراها محفورة
ويذكر لنا كذلك إحدى القصص، فيحكي لنا قائلًا:
ذات صباح، خطا شابٌ نحو السوق بخطواتٍ يغمرها الحنين، يبحث عن هدية تليق بصديقٍ عزيز. وبين أروقة السوق، حيث تصطف الدكاكين كأنها صفحات من كتابٍ قديم، وقعت عيناه على قطعةٍ فنيةٍ نادرةٍ، من صنع يدٍ مكيةٍ ماهرة، تنبض بالحرفية والعراقة.
اقتنى الشاب القطعة كمن يعثر على كنز، وقدّمها لصديقه الذي أشرق وجهه دهشةً وفرحًا. لم تكن الهدية مجرد تحفة، بل كانت قصةً من تراب مكة، ونبضًا من ذاكرة سوقٍ اختزن بين جنباته التراث، والحب، والهوية.
وتذكر لنا الأستاذة عائشة فطاني من أرشيف ذكرياتها إحدى قصص الطفولة، وعنوانها “حكايتي مع المِدْعَى”:
مَن مِنّا لا يعرف المِدْعَى؟
ذاك السوق الشعبيّ العتيق في قلب مكّة، الذي طالما ضجّت أركانه بروائح الخضار الطازجة، وأصوات الباعة، وضحكات العابرين. هو ليس مجرّد مكانٍ للتسوّق، بل ذاكرة حيّة تسكننا، تنبض بصور الطفولة، ووجوه الأهل، وأحاديث المارّة، وبعض من مواقف لا تُنسى.
كنتُ، كغيري، أرافق والدتي كلّما سنحت لنا فرصة الذهاب إلى المسجد الحرام، فنمُرُّ بالمدعى، نسير على مهل بين الأزقّة الضيّقة، أجرّ ظلالي خلفي، وأراقب الدنيا بعينين صغيرتين تملأهما الدهشة.
لكن للذكريات وجه آخر.. وجه مبلّل بالدموع، يرتجف فيه القلب عند تذكّره.
كان ذلك اليوم من أيام الطفولة التي لا تُمحى عندما تركتني والدتي برفقة أخي “عزمي” على جانب أحد المحالّ، بينما انشغلت باختيار بعض الخضار. كنتُ في الثامنة أو التاسعة من عمري، لا أدرك حينها معنى المسؤولية، ولا أقدّر حجم الثقة المعلّقة على كتفيّ الصغيرين. جذبني ضوء التلفاز من المحلّ المجاور، فذهبتُ أتابعه بكلّ براءة، غارقةً في ألوانه المتحرّكة، ونسيت… نسيت أنني معنيّة بحراسة أخي!
حين عادت أمي وسألتني:
“أين أخوك؟”
أجبتها بعفوية مرتبكة:
ما أدري…
تحوّل في ذلك الوقت السواق إلى متاهة، وصوت أمي إلى نداءٍ حادٍّ يصدح في كل زاوية. لم تكن الهواتف المحمولة حينها في متناول اليد، ولا وسائل التواصل كالآن، كانت الرحلة في البحث أشبه بالتيه. فزعٌ، توتر، ودموع تتجمّع في المآقي، تحاول أن تنكر ما حدث.
صادفنا أحد المارّة ممن يعرفون والدتي، فأشار عليها بالذهاب إلى قسم الشرطة القريب من المدعى. وهناك، وسط ارتجاف الخطا، وجدنا عزمي… جالسًا بجانب شرطيّ طيّب، يمسك بقطعة حلوى، وعيناه تبرق من أثر بكاء لم يطل، كما روى لي لاحقًا، شكرت أمي الشرطي ودعت للدولة والحكومة الرشيدة طويلًا.
عدنا إلى البيت في وقت متأخر، أنهكنا الخوف، وغمرنا الحمد. كانت الساعات الأربع التي قضيناها في البحث كأنها دهور. ومن يومها، علّمتني الحياة درسًا عميقًا لم يغب عن ذهني أبدًا:
إذا ضعت، فلا تغادر المكان الأول الذي انفصلت فيه عن أهلك، فهناك يكون اللقاء أقرب من أيّ طريق.
هكذا، ظلّت المدعى حاضرة في ذاكرتي، ليس فقط كوجهةٍ للتسوّق أو محطةٍ في طريقنا إلى الحرم، بل كصفحةٍ من كتاب الطفولة، كعِبرةٍ مغلّفة بالحلوى والدموع، وكحكايةٍ لا تزال تُروى.
هكذا كان سوق المدعى أكثر من مجرد سوق، بل مرآةٌ لروح مكة، وصدى لأصواتٍ رحلت، وما زالت ذكراه تنبض بالحياة.
شكرًا لك أ. سلوى الأنصاري، ولكلّ من شاركك النَّقل، وأخصُّ الدكتورة حصَّة – حفظها الله وأبقى حروفها ذخرًا وفخرًا إلى يوم يبعثون – لم أرَ ذلك السُّوق، ولم أسمع عنه، لكنِّي زرته من وحي أقلامكم، وسمعت أصوات باعته، ومرَّت عليَّ رائحة الخبز والطِّيب في مزجٍ غريب، فالزَّمن الجميل وحكايا الماضي عبَقٌ أصيلٌ يبقى في الذاكرة كأصالة أهله، فالمكان يزدان بأهله وقاطنيه؛ ليصبح روحًا خالدة في تاريخ كل عظيم، وصفحةً من صفحاته التي سُطِّرت بماء الذَّهب الذي لا يصدأُ بمرور الأعوام، تجوَّلت في السُّوق، وعشت مع كلِّ قصَّةٍ تفاصيل تلك الحقيقة الغائبة التي يرويها الحنين. ✍🏻نوال القرشي