مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

شذى الجاسر* في الساحة الخارجية للمقهى الذي اعتادت على زيارته كأنها تحج إلى مذبح …

اختيار

منذ شهرين

699

1

شذى الجاسر*

في الساحة الخارجية للمقهى الذي اعتادت على زيارته كأنها تحج إلى مذبح انتصاراتها الصامتة. أخرجت سيجارتها، أشعلتها بنفس ثقيل، نفثت دخانها ببطء واختلط بأنفاسها كأنهما عاشقان قديمان يلتقيان في لحظة وجع.
ارتشفت من فنجان قهوتها، تلك القهوة التي طالما شاركتها الاحتفال بانكساراتها المنتصرة. كانت تعلم أنها ترتكب خطيئة، لكنها خطيئة تمنحها نشوة، تروي بها ظمأ غرورها… ولو للحظة واحدة.

في زحمة الضجيج الصامت، ظهر أمامها فجأة شاب طويل، متوسط الوسامة، لكن جاذبيته تنساب في الهواء كعطر فخم. كان أنيقًا، واثق الخطوة، له رائحة الكبرياء ذاتها التي اعتادت سحقها. رمقته بنظرة خاطفة، ثم أعادت بصرها إلى البحر. النسمات داعبت خصلات شعرها، فبدت كغجرية مشاغبة ترقص وحدها على أنغام منفاها.
أنهت فنجانها، حدقت في قعره قليلًا، ثم قالت كأنها تخاطب نفسها: سألتقيه هنا، بعد أن أسحق قلب ضحية جديدة كما سحقت هذه السيجارة.
في صباح اليوم التالي، استيقضت على رؤيا غريبة: رجل يلاحقها بين أماكن غير مألوفة، حتى وقف أمامها وألبسها خاتمًا. حاولت خلعه، تحطيمه، لكنها عجزت. استيقضت مشوشة، بين رضى وغضب، ثم دفعت الرؤيا بعيدًا وبدأت التخطيط لرحلتها القادمة في تحطيم القلوب.
بعد فترة ليست بسيطة.. وفي وقتها المعتاد عادت إلى ذات المقهى، كما تعود الأرواح إلى أماكن نزفها الأول. هناك كان ينتظرها، جالسًا بثبات، يرمقها بنظرة فاحصة. تجاهلته. أشعلت سيجارتها، أسندت ساقًا على ساق، أغمضت عينيها وتركت النسمات تعبث بشعرها. لكن صوته اخترق وحدتها:
– هل لي بالجلوس؟
فتحت عينيها بتعجب، ثم قالت بتهكم:
– لا.
– لن آخذ من وقتك الكثير.
– تفضل، لكن كن سريعًا.
جلس بثقة، وقال:
– فهمت من النادل أنك دائمة المجيء في الوقت نفسه.. توقيتك دقيق بشكل غريب.
نظرت إليه بعيون مشككة، فأردف:
– معذرة، لكنك أثرت فضولي. لك جاذبية لا تشبه أحدًا. هذا رقمي، إن رقبت، يشرفني أن أسمع صوتك.
ترك الورقة على الطاولة، وقف، لوح لها بابتسامة خفيفة، ومضى. بقيت تتأمل مكانه الخالي… ثم أمسكت بالورقة، وضعتها في حقيبتها، وابتدأ معها صراعها.
مرت ثلاثة أسابيع. قررت أن تجعله ضحيتها الجديدة. اتصلت. لم يجب. عاود الاتصال بعد دقائق.
– ألو!
– مرحبًا، كنت أنتظر اتصالك. اسمي ميشيل.
– أهلًا … كارلا.
وبدأت رحلة المكالمات بينهما.
في البداية، كانت حادة، صلبة، كسيدة من رخام. لكنه كان صبورًا، عطوفًا، يعرف كيف يسحب الحجارة من حول قلبها دون أن يشعرها بالعري.
مضت عدة أشهر، ثم جاء موعد اللقاء. في ذات المقهى. .على ذات الطاولة.
دخل متأخرًا قليلًا، حاملًا باقة ورد. مدت يدها بابتسامة مرهفة.
– تأخرت.
ابتسم قائلًا وهو يقدم لها الباقة:
– هذه هي السبب.
تناولتها، استنشقت عبيرها، ابتسمت بسخرية خفيفة.. ثم قالت:
– حتى الزهر يجف… مثلي تمامًا.
– لم أفهم.
– نحن نقتلها بدم بارد لكي نقدمها لمن نحب، إما تقربًا منه أو تكون حروفنا في تمني الشفاء.
– لماذا تنظرين لها من هذا الجانب؟!… هي خلقت لتكون لغة صامتة رقيقة وجميلة تخبر ما لم نستطع البوح به.
فكرت بكلامه قليلًا، لكنها لم تقل شيئًا.
بعد لحظة صمت، تحدث هو وشاركته الحديث كما شاركته قهوتها التي تسجل خفية كل المشاعر المتصارعة بداخلها.
تكررت اللقاءات وقصرت المسافات بينهما. أخبرته بحربها وانتصاراتها، واحتفالاتها مع قهوتها. أخبرته كيف جُرِحَ قلبها وسحق، وكيف كانت تنتقم. تعلم أنه لا يجب عليها فعل ذلك، وتعلم أنه إثم كبير، وتعلم أن السبيل للتخطي يكون مع معالج نفسي، لكنها كانت في أعماقها رغبة قوية للانتقام، رغبة تجعلها تجري لتحقيقها بكل الطرق ودون توقف. أخبرته كيف سيطر على كل تلك المشاعر. كيف أعطاها الأمان، الاحتواء، الثقة والوضوح. رغم ذلك كان هناك شيء بداخلها من الخوف لا يزال ينبض.
في كل مرة يلتقيها كان يلاحظ في عينيها حيرة وسؤال يحارب للخروج. قال لها:
– لمَ لا تتركين عينيك تتكلم؟
– وهل تقولان شيئًا يستحق الإصغاء؟
– هناك الكثير… أود سماعه.
صمتت، ثم سألته:
– لماذا أنت؟
– ماذا تقصدين؟
– لماذا سقط حصني أمامك؟ ألا تخشى أن تكون ضحيتي التالية؟ ألا تخاف من قلبي الذي يسحق القلوب انتقامًا كما تسحق السيجارة؟

أخرجت سيجارة، بيدين ترتجف أشعلتها ونفثت من بين شفتيها المرتعشة دخانها. ثم أردفت قائلة:
– ألم يتسلل الخوف لقلبك مما أخبرت ورويته لك عن قصتي؟
ابتسم، أمسك يدها، وقال بثقة:
– لا أخاف؛ لأنني وجدت الطريق إلى قلبك، وعلاج روحك.
– هل تثق بي؟
– أثق بنفسي التي اختارتك من أول نظرة.
نظرت إلى السماء، نفثت دخانها ببطء، ثم نظرت لعينيه بنظرة حادة، دامعة القوة، تصحبها ابتسامة متأملة ثم قالت له وهي تسحق سيجارتها:
– وأنا أيضًا اخترتك.

*كاتبة من السعودية

التعليقات

  1. يقول عصام البقشي:

    قصة جميلة، من بداياتها تجذبك للاستمرار في قراءتها.
    هي الانثى و هو الذكر
    علاقة ابدية لا بد لها ان تلتقي مهما حاولنا تشتيتها.

    شكرا ا. شذى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود