الأكثر مشاهدة

إعداد: سلوى الأنصاري في زمنٍ لم تعرف فيه الأرواح وسيلةً للتقارب سوى الورق والحبر …

أدب الرَّسائل.. معابر إنسانية ومحابر ثقافية

منذ 3 أشهر

206

2

إعداد: سلوى الأنصاري

في زمنٍ لم تعرف فيه الأرواح وسيلةً للتقارب سوى الورق والحبر، كانت الرسائل الأدبية جسرًا إنسانيًا، تتصافح عبره القلوب قبل الأيدي، ويرتوى بها شغف الأدباء ببعضهم، وتتجلى بها أسمى معاني الصداقة والفكر.

أدب الرسائل لم يكن مجرد وثائق شخصية، بل هو فن قائم بذاته، يحمل بين سطوره حرارة العاطفة، ورهافة الذوق، وصدق البوح.

فيه تتجلى علاقة الإنسان بالكلمة، وعلاقته بالآخر، حين تكون المسافة حاجزًا، ويكون البريد ضمير وصل لا انفصال، فتكون الرسالة المبتدأ للبوح والعواطف الخبر الذي تجره الباء بصدق نحو صندوق صغير يزوره ضمير منفصل فيحمله معه كسرب حمام زاجل ويضعه على نافذة الانتظار.

في فسيفساءِ الأدبِ العربي، يتلألأ “أدبُ الرسائل” كجوهرةٍ مصقولةٍ حملت نبضَ القلوبِ، وهمس الأرواح، وخفقاتِ العقلِ في سطورٍ نُسِجَت بحبرِ الوجدان. هو فنٌّ لا يشبه سائرَ الفنون، إذ فيه يُصغي القلمُ لما لا يُقال، ويُصاغ الحنينُ في قالبِ بلاغة وعذوبة لا تنضب.

من العصرِ الجاهلي إلى فجرِ الإسلام: 

لم يعرف العربُ الأوائل الرسائلَ بصورتها الأدبية المتأنقة، بل كانت الكلماتُ طيَّ الريح، يتناقلها الشعراءُ والخطباءُ في المجالسِ والقبائل. أما الرسائلُ المكتوبة، فلم تكن إلا رقاعًا مختصرةً تؤدي غرضًا سريعًا. حتى إذا أشرقت شمسُ الإسلام، بزغت رسائلُ النبيِّ محمدٍ ﷺ إلى ملوكِ الأرض، تفيضُ بدعوةٍ، وتزدانُ بجلالِ المعنى، فكانت مزيجًا من فصاحةِ الوحيِ وهيبةِ الرسالة.

من عبد الحميد الكاتب إلى الجاحظ: 

في العصرِ الأموي، وُضِعَت اللبناتُ الأولى لفنّ الرسائل كما نعرفه اليوم. برز عبد الحميد الكاتب، فصاغ الرسالةَ بأسلوبٍ فنيٍّ رفيعٍ، جمعَ بين دقةِ المعنى، وجزالةِ اللفظ، وأناقةِ الأسلوب. ثمّ جاء العصرُ العباسي، فانبثقَ فيه النورُ من كل صوبٍ، وارتفعت للرسائلِ قبابٌ من الفكرِ والأدب، وظهر أمثالُ الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، حيث أصبحت الرسالةُ لوحةً لغويةً تنبضُ بالحكمةِ والعاطفةِ والفن.

الرسالة في ثوبِ الهوى الأندلسي: 

وفي رحابِ الأندلس، اكتست الرسائلُ حُلّةً من الشوقِ والرقة، وارتقت من الديوان إلى الديوان، ومن القلبِ إلى القلب. ومن بين السطور، برزت رسائلُ ابن زيدون إلى معشوقتِه ولّادة بنت المستكفي، وهي دررٌ تُتلى في العشقِ والبيان، يُطرّزها الشوقُ وينقشها الألمُ على صدرِ الورق. 

كانت الرسائل أدبًا عابرًا للزمن منذ ذلك الوقت إلى وقتنا الحالي؛ فها هي رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، أو العكس، ما زال أريجها عالقًا في صناديق البريد، تخبر الأصدقاء أن اللغة وحدها كانت كفيلة ببناء علاقة تتجاوز الغياب والصورة. علاقة روحية عميقة لم يلتق فيها الطرفان وجهًا لوجه، لكن رسائلهما تركت أثرًا خالدًا، كأنها تعويض رمزي عن اللقاء المستحيل الذي فاح شذاه بين سمائين.

نجد كذلك في رسائل طه حسين وتوفيق الحكيم والرافعي إلى صديقه الشيخ محمود أبو رية فيما بين سنتي 1912هـ و1934م،ة، والعقاد وسارة، ورسائل أحمد أمين لزملائه، وغيرهم الكثير، ما تشهد على أن الصداقة – وربما الحب – لا تحتاج دائمًا إلى لقاء الجسد، بل يكفي أن تلتقي الأرواح على زورق من ورق يأخذهم لعوالم الصداقة الصادقة.

لم يكن التراسل بين الأدباء ترفًا عاطفيًا فقط، بل تبادلاً فكريًا راقيًا، ونقدًا أدبيًا مخلصًا.

نقرأ رسائل، فنكتشف حوارًا مستمرًا، فيه اتفاق واختلاف مغلف بودٍّ عظيم.

حتى في الغرب، ظلّ التراسل بين الأدباء وسيلة لبناء علاقات فكرية متينة فنجد رسائل راينر ماريا ريلكه إلى فرانتس كسافير كابوس – التي صارت كتابًا بعنوان رسائل إلى شاعر شاب – كانت دليلًا حيًا على أن الرسالة تستطيع أن تكون مرشدًا، وناصحًا، وصديقًا.

في رسالته الأولى، يعتذر راينر ماريا ريلكه بلطف عن تقييم أو نقد قصائد الشاب كابوس، ويُوجّهه بحكمة قائلًا:

“لا أحد يمكنه أن ينصحك أو يساعدك، لا أحد هناك.. طريق واحد فقط: ادخل في ذاتك”. 

وعلى امتداد الرسائل العشر التي تبادلها معه، يتحول ريلكه إلى مرشد روحي وفكري، لا يلقّنه الشعر، بل يُعلّمه كيف يشعر به. يهمس له عن الحب، وعن القلق، وعن سعي الشاعر إلى الحقيقة، لا عبر الكلمات وحدها، بل عبر تأمل العالم، ومعايشته، والانصهار في تجربة الشعر بوصفه طريقًا لاكتشاف الذات والوجود معًا.

ما يُميز الرسائل الأدبية أنها تجمع بين البوح الشخصي والذوق الفني. يكتب الأديب رسالته كما لو كان يكتب نصًا أدبيًا، لكن الفرق أن المرسل إليه يكون روحًا واحدة، لا جمهورًا مجهولًا.

هذه الرسائل لا تحتاج إلى اتصال دائم، ولا لقاء مستمر، بل إلى صدق، وحنين، ولغة تُشبه القلب.

وما أصدق ما قاله أحدهم:

“الصداقة الحقيقية لا تضعفها المسافات، بل تُقوّيها الرسائل.

لقد حفظ لنا التاريخ رسائل أدبية كانت بمثابة أعمدة من نور تُضيء زوايا العلاقات الإنسانية بين الأدباء، فها هو جبران خليل جبران يكتب إلى مي زيادة:

في “الشعلة الزرقاء” ذلك الكتاب الذي لا يشبه أيّ عملٍ آخر له، إذ يضم بين دفتيه سبعًا وثلاثين رسالة، خطّها جبران بوجدانه لا بيده، إلى الكاتبة ميّ زيادة. رسائل تنبض بفرادة هذا الحب الذي امتدّ على مدى عشرين عامًا، دون أن يلتقيا جسدًا، بل في عالمٍ آخر، عالم الفكر والروح.

في هذه الرسائل، نقرأ تحولات العلاقة كما لو كنا نراقب نمو زهرةٍ في أرضٍ بعيدة.

كنا نلاحظ التحفّظ الهادئ إلى التودد الدافئ، ومن الإعجاب الأدبي إلى صداقة شفيفة تتجاوز المألوف، ليكتمل المشهد بقصة حبٍ مكتومة، لا صوت لها سوى الحبر، ولا صدى إلا أنين الأوراق.

كتب لها جبران ذات يوم في رسالة: 

“إني أعيش فيك مهما بَعُدت عنك، وأشعر بك مهما انقطعت رسائلك”. 

وهي بدورها تردّ عليه:

“أتساءل أحيانًا: أيها الغائب الحاضر، كيف استطعت أن تجعل من الرسالة لقاءً أجمل من الحضور؟!”. 

لم يلتقيا وجهًا لوجه طوال حياتهما، لكن رسائلهما كانت كافية لأن تصنع صداقة متوهجة وعلاقة فكرية خالدة تجاوزت حدود الجغرافيا والزمن.

ولم تخلُ الرسائل من نقاشات عميقة في الأدب والفكر والحياة، كرسائل ميخائيل نعيمة إلى جبران، ورسائل الرافعي التي جمعها في “رسائل الأحزان”، و*“السحاب الأحمر”*، حيث امتزج الحنين بالتأمل، والمشاعر بالبلاغة.

نذكر من تلك الرسائل الى ميخائيل نعيمة: 

لقد صرنا مشتاقين إليك وأنت لم تزل مودعًا.. فماذا يحل بنا إذا ما غبت عنا ثلاثة أسابيع؟! 

وهذه رسالة أخرى يقول فيها: 

عزيزي ميخائيل

سلام عليك

ماذا حل بالصور الشمسية التي أخدناها في كاهونسي؟ ألا فاعلم أني أريد الحصول على نسخة من كل صورة. فإن لم أحصل على حقوقي رفعت عليكم دعوتين، واحدة في محكمة الصداقة، و الأخرى في ديوان أحمد باشا الجزار.

واذكر يا ميشا اسمي مشفوعًا بمودتي أمام إخواننا ورفاقنا والله يحفظك عزيزًا لأخيك. 

جبران

بوسطن 1921. 

حملت الرسائل الأرواح على طائرات ورقية، فقرأها العالم أجمع وانتشر صدى كلمات الصداقة عبر أثير الزمن إلى يومنا هذا، يا لها من صداقة صادقة، تؤكد أن المسافات ما هي إلا عذر قبيح لا تؤمن به الأرواح. 

أما في أوروبا، فقد دوّى صدى رسائل كافكا إلى “ميلينا” مثل اعترافات مكتوبة بحرارة الألم والوحدة، يقول:

“كل رسالة منك، يا ميلينا، تجعلني أعود إلى الحياة قليلًا”. 

هذه الرسائل لم تكن مجرّد كلمات، بل أرواح تُسكب على الورق، كُتبت لا لتُحفظ، بل لتُعاش من جديد.

في يوم الصداقة العالمي، ونحن نعيش في عصر الرسائل السريعة والمحادثات العابرَة، نتوق للعودة إلى الرسالة بوصفها فعل حبٍّ، وهدوء، ونيّة صافية.

فهل يمكن أن نُحيي فن الرسائل؟

أن نكتب لأصدقائنا بخط اليد، لا لنتحدث فقط، بل لنُهدي جزءًا من أرواحنا على ورق؟

دعونا نكتب، لا لنُسرع، بل لنُبطئ.

دعونا نُراسل، لا لنُخبر، بل لنقترب.

ففي أدب الرسائل، تتنفس الصداقة وتُولد من جديد… 

التعليقات

  1. يقول Fatimah Al-Sharif:

    مقال جميل كجمال روحك… لكن حقيقة علاقاتنا باتت اليوم كومة من رسائل الواتس أب… والفرق أن الأسلاف حفظوا ما كتبوا فبات ذلك أدبا… ونحن جعلناه رقميا ولم نوثقه فضاع في الفضاء الرقمي بل حزنه الذكاء الاصطناعي على مدار السنين واصبح من حقه وذهب وقتنا وضاع حقنا في حفظ أجمل الكلمات التي ولدت من تجربة إنسان…

  2. يقول فايزه:

    عشت صداقة من اجمل الصداقات ووجدت معانيها فعلا بالرسايل والمواقف
    الرسايل فعلا لم تكن مجرد كلمات بل ارواح تسكب على الورق وكتبت لتعاش من جديد
    ورسايل الصدقاء عمرها ٢٣عاما اجد نفسي عند اتصفحه من جديد حتى وان بعدت الاجساد فالارواح تلتقى من جديد
    مقال جميل جدا استاذه سلوى الله يديك العافيه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود