25
0
62
0
155
0
230
0
98
1
56
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12028
0
11329
0
10653
0
9655
5
8046
0

الحسن الگامَح*
“لوحة الإسكافي” للفنان التشكيلي مصطفى القاضي، تتجاوز الألوان لتحكي قصة الكرامة والإتقان.
بادئ ذي بدء:
قراءة أية لوحة يمر بعدة نقاط:
أهمها: اللوحة كنص قابل للقراءة، الرسالة الفنية، ثم الرسالة الإنسانية، وهذا أركز عليه في كل قراءاتي للوحات التشكيلية أو الفوتوغرافية.. أي بمعنى آخر:
لنقرأ اللوحة بتمهل من الجانب الفني:
تتراءى لنا لوحة الفنان التشكيلي مصطفى بالقاضي كقصيدة بصرية مفعمة بالحياة والألوان، ترسم ملامح إنسانية عميقة ومهنة عريقة. للوهلة الأولى، يشدنا التكوين اللوني الجريء الذي يمزج بين الألوان الأولية والثانوية المشبعة، كالأزرق والأصفر والأحمر والأخضر، ما يخلق تباينًا حيويًّا وجذبًا بصريًا لا يُمحى. الفنان هنا لا يرسم فقط لوحة بورتريه، بل يجسد روحًا بأسلوبه الذي يلامس التعبيرية، مضيفًا لمسات من الواقعية المشوّهة لتعزيز الانطباع والمغزى.
في قلب هذا العمل الفني، تتوسطنا شخصية رجل يبدو أنه الإسكافي، منهمكًا بكل كيانه في عالمه الخاص.. ملامح وجهه قوية ومعبرة، وعيناه تحملان تركيزًا شديدًا تنظران إلى الأسفل نحو عمله بين يديه، كأنما تتحدثان عن دقة متناهية وتركيز لا يشوبه شتات.. هذه النظرة ليست مجرد تركيز على مهمة، بل هي تجسيد للانغماس الكلي في العمل، والتفاني الذي لا يعرف الكلل. القبعة الزرقاء المخططة التي يعتمرها تضفي عليه طابعًا فريدًا، وتزيد من تميز شخصيته كحرفي أصيل.. أما لون بشرة وجهه المائل إلى درجات الأصفر والأخضر الفاتح والرمادي، فيمكن أن يعكس الإضاءة الخاصة بورشة العمل، أو يكون اختيارًا فنيًا لتعزيز الجانب التعبيري وإبراز الظل والنور بطريقة غير تقليدية.. يرتدي الإسكافي قميصًا أزرق فاتحًا، طياته توحي بحركة الجسم وانحنائه الدائم فوق ما ينجزه.
العنصر الأبرز الذي يؤكد هوية الشخصية كإسكافي، ويسلط الضوء على جوهر اللوحة، هو يداه المفعمتان بالقوة والخبرة.. هاتان اليدان، اللتان رسمتا بحجم بارز، ليستا مجرد أطراف جسد، بل هما أدوات للابتكار والإتقان.. اليد اليسرى، من منظور المشاهد، تمسك بإحكام أداة تشبه المطرقة الصغيرة المسطحة، أو أداة للطرق على الجلد والمسامير، ما لا يدع مجالًا للشك في طبيعة مهنته.. وأمام الإسكافي، تتناثر أشكال غير واضحة المعالم، لكنها توحي بقطع من الجلد، أو أجزاء من الأحذية، أو مواد أخرى مرتبطة بصناعة الأحذية، بألوان متنوعة من الأصفر والبنفسجي والبني، كل ذلك يرسم بيئة ورشة الإسكافي بكل تفاصيلها الدقيقة.
أما الخلفية، فتتكون من مساحات لونية كبيرة وبسيطة، تتداخل فيها ألوان الأحمر والأصفر والأخضر، لتشكل إطارًا تجريديًا للطبيعة الحرفية لهذا المشهد.. هذه الخلفية، بما فيها من خطوط عمودية وأفقية، توحي بجدار من الثوب المغربي المعروف، أو قد تكون عناصر تصميمية تعبيرية بحتة تهدف إلى إضافة توازن بصري وطاقة للتركيب اللوني العام للوحة، ما يعزز الحيوية التي تكتنف المشهد.
الرسالة الفنية:
فالرسالة الفنية التي يقدمها الفنان مصطفى بالقاضي تتجلى في الاحتفاء بالحرفية الأصيلة والعمل اليدوي الدقيق في عصر يطغى عليه الإنتاج الآلي.. إنها إشادة بمهنة الإسكافي كرمز للمهارة والصبر والتفاني.. الفنان يدعو المشاهد للتأمل في قيمة الإتقان والانغماس الذي يتطلبه العمل الحرفي، مستخدمًا الألوان الجريئة والأسلوب التعبيري لإيصال هذا التقدير بفاعلية. فالألوان ليست مجرد زينة، بل هي جزء أساسي من السرد الفني الذي يبرز الشغف والكدح.
الرسالة الإنسانية:
فلوحة الفنان مصطفى بلقاضي، تتجاوز الجانب الفني لتمس القضايا البشرية الأعمق.. إنها تجسيد لكرامة الإنسان العامل، وتأكيد على أن العمل، مهما بدا بسيطًا، هو مصدر فخر وعزيمة. اللوحة تذكرنا بأن الاجتهاد والتفاني قيمتان إنسانيتان لا تزالان جوهريتين في عالم متغير.. كما أنها تصور العلاقة العميقة والاندماج الروحي بين الحرفي وحرفته؛ فالعمل هنا ليس مجرد وسيلة للرزق، بل هو جزء لا يتجزأ من هوية الإسكافي وكيانه.. في سياق عالمي يتسارع فيه الاندثار لبعض المهن التقليدية، تحمل اللوحة رسالة إنسانية عن المرونة والبقاء وقيمة الحفاظ على التراث والمهارات التي ورثناها.. هي دعوة للتأمل في الجوهر الإنساني الذي يتجلى في الإبداع والاجتهاد والشغف، والرضا الذي يأتي من إنجاز شيء بيديك، ومن رؤية ثمرة جهدك الذي يمنحك شعوراً بالكرامة والعزيمة.
ختامًا:
إن لوحة الفنان التشكيلي مصطفى بالقاضي، التي تجسد ببراعة شخصية “الإسكافي”، ليست مجرد رسم بصري لحرفي في عمله، بل هي نسيج غني من الرسائل الفنية والإنسانية.. من خلال ألوانها النابضة بالحياة وأسلوبها التعبيري القوي، تحتفي اللوحة بالجمال الكامن في العمل اليدوي، وبالدقة والإتقان الذي يميزه.
إنها دعوة مفتوحة للتأمل في قيمة الكرامة الإنسانية التي يضفيها العمل على الفرد، وفي التفاني والإصرار الذي يظهره الحرفيون في مواجهة التحديات.. في عالم يتسارع فيه إيقاع الحياة وتتغير ملامحه باستمرار، تأتي هذه اللوحة كتذكير مؤثر بأهمية الأصالة، وعمق العلاقة التي تربط الإنسان بمهنته، والحاجة الماسة للحفاظ على تراثنا الثقافي المتمثل في هذه الحرف اليدوية العريقة.
هذه اللوحة ليس سوى عمل فني يُعرض على جدار، بل هي نافذة تطل على روح الإبداع البشري، وشهادة خالدة على أن الشغف والإتقان هما مفتاح الخلود في أي عمل، مهما كان بسيطًا في مظهره، لكنه عميق في جوهره.. إنها رسالة تلامس الروح، وتترك فينا صدى الاحترام والتقدير لكل يد تعمل، ولكل قلب يُبدع.
شاعر عاشق للجماليات

*شاعر من المغرب
التعليقات