821
3
447
0
438
0
215
0
223
0
25
0
62
0
155
0
229
0
98
1
56
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12028
0
11329
0
10653
0
9655
5
8046
0
شموع الحميد
(حوار مع الفنانة التشكيلية غادة العسكري)
فن في منتهى الصغر لا يقاس باتساع لوحة، بل بعمق التفاصيل وعظمة المعنى.. فن يستدعي الصبر كما يستدعي الإلهام ويختزل الحكايات في ومضة من الدقة دون أن يفقد عمقه وأثره الفني، يجمع بين الحس الجمالي والعقل المنظم وبين الموروث الثقافي.
يُعد فن المنمنمات من أرقى الفنون التشكيلية الأصيلة، ويحتل مكانة بارزة كأحد أهم فروع الفنون الإسلامية العريقة، فالمنمنمة تعني الشيء المزخرف أو المزركش، وتعرف بأنها فن الرسم الدقيق الذي يُنفّذ على صفحات الكتب والمخطوطات، يتميز هذا الفن بـ تنميق المخطوطة بالرسوم والألوان الزاهية، حيث تظهر الصور، رغم صغر حجمها، بوفرة مذهلة في التفاصيل والدقة، وتنوع في العناصر التشكيلية التي قد تكون آدمية، أو حيوانية، أو نباتية، وغيرها من الزخارف، بحيث تكون لوحة تحتوي على عناصر مقعدة ومعان متعددة ضمن مساحة محدودة، فهي استثناء نادر يثبت أن الفن لا يحتاج إلى فضاء واسع ليرى.
فإن فنّ المنمنمات الإسلامي لم يولد في مدرسة واحدة، بل مرّ بمراحل متعددة تأثرت بتنوع الحضارات وبالتبادل الثقافي بين المراكز الفنية في العالم الإسلامي. ومع تعاقب العصور، نشأت في كل منطقة مدارس فنية مميزة تحمل طابعها الخاص من حيث الأسلوب والألوان والرؤية الجمالية، غير أن جميعها ظلّ يجتمع تحت مظلةٍ واحدة هي الروح الإسلامية التي تتجلى في التوازن، والدقة، والرمزية العميقة.
فبدأت رحلة المنمنمات من قصة كليلة ودمنة التي ترجمها المقفع ٧٦٠ه التي قد تمت ترجمتها عن اللغة الهندية إلى العربية، حيث تمثل كليلة ودمنة حياة أصحاب السلطة فيتكون الكتاب من خمسة عشر بابًا رئيسًا تحتوي جميعها على قصص خيالية بأبطال تشبيهية من الطيور والحيوانات التي ترمز إلى شخصيات بشرية، حيث إن الأسد يلعب دور الملك وخادمه الثور انتقالًا إلى حيوان ابن آوى وهما كليلة ودمنة، وهو أول شاهد من الكتب العربية على ظهور المنمنمات الإسلامية.
كان استخدام العرب للورق وصناعته في العصر العباسي له فضل كبير، إذ كان من العوامل التي أدّت إلى نشأة فن المنمنمات الإسلامية.. فمن بغداد العباسية انطلقت الشرارة الأولى، ففي نهاية القرن الثاني عشر الميلادي تكونت أول وأقدم مدرسة للتصوير العربي في شمالي العراق، لكن انتقلت بعد ذلك لمدينة الموصل وانتقل فنها لاحقًا إلى بلاد فارس والشام، فتمت ترجمة المعارف والأدب إلى صور تروي ولا تنطق، حيث تميزت بأسلوب بسيط وألوان محدودة وشخصيات ترسم بملامح مسطحة دون عمق بعيد كل البعد عن المنظور الواقعي.. كان الهدف منها سرد بصري للمعلومات فركزت على الرسوم التوضيحية للمخطوطات العلمية والأدبية مثل: كليلة ودمنة ومقامات الحريري الذي صوره أحد أعلام فن المنمنمات، وهو يحيى بن محمد الواسطي لدقته في تصوير الحياة الاجتماعية، بدأً من الطرائف إلى القضايا المجتمعية.. لم يكن الواسطي يسعى إلى إبهار البصر فحسب، بل إلى تحريك الفكر، خطوط واضحة، تكوينات دقيقة، ألوان هادئة، دقة في رسم الملامح الإسلامية العربية، فقد جمع بين عبقرية الأديب وموهبة الرسام.
وفي نهاية القرن الرابع عشر ضربت حشود المغول ضربتها ببلاد الرافدين.. أهدر عدد كبير من الكتب المصورة، لكن نجا غربي سوريا؛ ما أدى إلى انتقال المدارس وازدهارها في سوريا ثم مصر، وكانت تحت رعاية الملوك والسلاطين فتميزت باستخدام ألوان قوية مشرقة كالذهبي والأزرق والأحمر وزخارف هندسية ونباتية مستوحاة من العمارة الإسلامية، حيث مزجت بين النص والزخرفة وامتازت بطابعها الواقعي التوثيق، حيث صورت مشاهد يومية مثل: الأسواق والمواكب الرسمية والمجالس العلمية والاحتفالات الدينية؛ فانعكست هذه العظمة على لوحاتهم وبرزت القباب والمآذن والهندسة والزخرفة.. فأضفى لها الفخامة والجمال الفني لتشهد منجزاتها على تقاطع المسارات بين الإبداع والنفوذ، ومن أبرز أعلامها: أبو الفضل بن أبي إسحاق الذي صور كتاب الحريري، ويعد من أفضل المخطوطات المصورة في المدرسة المملوكية.
تفرعت عن أساليب المنمنمات العربية مجموعة من التيارات الفنية في الأقاليم والدول الإسلامية كإيران وتركيا والهند.. استفاد رساموها من طرائق الرسم العربي للمنمنمات وأدمجوا فيها بعض السمات المحلية، حتى تحول فن المنمنمات إلى شكل باهر ومتجدد، مضيفًا إرثًا فنيًا فريدًا إلى فنون الرسم عالميًا.
كانت بلاد الفرس (إيران) في مقدمة الأقاليم التي تأثرت بفن المنمنمات العربية عندما وقعت تحت سيطرة المغول والتيموريين والصفويين، فنتجت عن ذلك مدارس عدة في فن المنمنمات، وهي المدرسة المغولية، والصفوية، والتيمورية.
اكتسب هذا الفن عبر العصور الإسلامية خصائص فنية وجمالية جعلته يختلف عن بقية الفنون التصويرية التي ميّزت هذا الفن عبر تاريخه.. ومن بين الفنانين الذين أعادوا لهذا الفن ألقه المعاصر، تبرز الفنانة التشكيلية العصامية الفنانة غادة العسكري، التي أسهمت في إحياء المنمنمات الإسلامية بأسلوب معاصر يمزج بين التراث والتجديد لتقدم تجربة بصرية فريدة.
وفي هذا الحوار، سنحاول أن نتعمق في جوهر هذا الفن الدقيق، ونسعى لفهم كيفية تحويل الفنانة المساحات الصغيرة إلى عوالم رحبة من المعنى والتأمل، كما سنتناول أعمالها كتجربة فكرية بصرية متكاملة.
رحلتي مع المنمنمات بدأت كرحلة اكتشاف داخلي، أكثر منها توجيهًا مباشرَا.
نشأت في بيت ينبض بالفن، حيث كان والدي نموذجًا حيًا للإبداع والالتزام الفني.. لكن ما جذبني إلى المنمنمات تحديدًا لم يكن مجرد التقليد أو التقليدية، بل شغفي بالدقة والعمق الرمزي الذي يحمله كل خط وزخرفة.. مع مرور الوقت، وأثناء ممارستي المستمرة للرسم والتجريب، أدركت أن هذا الفن ليس هواية عابرة، بل مساحة أستطيع من خلالها التعبير عن نفسي وعن هويتي وعن ذاكرة ثقافتنا.
بلا شك، كان الطريق محفوفًا بالتحديات.. فن المنمنمات لا يرحم السهو أو التسرع، كل تفصيلة تتطلب صبرًا ومهارة دقيقة.. لكن كوني فنانة عصامية أعطاني الحرية للاستكشاف والتعلم من خلال الممارسة والتجريب.. كل عقبة واجهتها كانت فرصة لفهم اللغة البصرية لهذا الفن بشكل أعمق، وتطوير أسلوبي الخاص بعيدًا عن القوالب الجامدة.
الزخارف، النقوش، وأسلوب التناظر في الفن الإسلامي تشكل بالنسبة لي مصدرًا لا ينضب للإلهام.. هي ليست مجرد شكل جمالي، بل لغة تحمل فلسفة وروحانية عميقة.. التحدي يكمن في ترجمة هذا الإرث إلى لغة معاصرة، تجعل العمل قريبًا من المشاهد اليوم، دون أن يفقد الروح الأصلية للتراث.. أعمل على إعادة صياغة الرموز وإعطائها نفسًا جديدًا، بحيث تتقاطع أصالة الجذور مع حس العصر الحديث.
بالنسبة لي، الهوية والذاكرة الجماعية ليست مجرد موضوع، بل جوهر الرحلة الإبداعية.. كل عمل هو محاولة لفهم الجذور، لإعادة قراءة التاريخ بصريًا وربطه بالحاضر.. الفن بالنسبة لي وسيلة للحفظ، للتأمل، وللتواصل مع جمهور يبحث عما يربطه بالذاكرة والثقافة.
أعمل دائمًا كباحثة عن التوازن بين التخطيط والتلقائية.. أبدأ غالبًا بفكرة مجردة أو شعور أود التعبير عنه، ثم أترك العمل ينمو تدريجيًا على اللوحة.. أحيانًا تتشكل تفاصيل جديدة أثناء التنفيذ لم تكن في الخطة الأصلية، هنا يكمن سحر المنمنمات، القدرة على الجمع بين الانضباط والدفق الإبداعي.
الألوان والزخارف ليست أدوات جمالية فحسب، بل لغة أستعملها لنقل المشاعر والرسائل الرمزية.. كل لون يحمل طاقته الخاصة، وكل زخرفة تحكي قصة أو تضيف طبقة من العمق. في أعمالي، يتحول اللون إلى خطاب بصري قادر على مخاطبة الوجدان والروح، ليس العين فقط.
كوني فنانة عصامية أعطاني حرية التجريب والتجاوز على القيود الأكاديمية.. لم أكن محكومة بأساليب أو تقنيات محددة، ما منحني المساحة لتطوير لغة بصرية تعبر عن رؤيتي الخاصة، وتسمح لي بالاندماج بين التراث والتجريب المعاصر.
المعارض كانت بمثابة مختبرات حقيقية للتفاعل مع الجمهور والفنانين الآخرين. كل معرض أتاح لي فرصة لتبادل الخبرات، وملاحظة كيف يتفاعل المشاهد مع أعمالي، وما الرسائل التي تصل بالفعل.. هذا التفاعل أثر في تطور رؤيتي الفنية وأغنى تجربتي الإنسانية والفنية على حد سواء.
من الاثنين معًا، الدقة التقنية في المنمنمات تمنح العمل هيكله وقيمته الجمالية، أما البُعد الروحي فيمنح كل لوحة روحها الخاصة.. بالنسبة لي، كل تفصيلة هي تأمل في الكون، وفن المنمنمات يسمح بتحويل هذه التأملات إلى لغة بصرية ملموسة.
النقد الإعلامي أعتبره مرآة لصوت الجمهور وللخبرات الجديدة.. أستمع بعناية، لكن بحس ناقد، أستفيد من الملاحظات التي تثري عملي، وأترك ما لا يخدم تطوري جانبًا.. الأهم هو أن يبقى التواصل مع الجمهور حقيقيًا وصادقًا، بعيدًا عن التحيز أو الانحياز للثناء فقط.
أؤمن بأن المنمنمات ستظل حاضرة، لأنها تمثل رابطًا بين الإنسان وتراثه وهويته.. التكنولوجيا قد تغير أدوات التنفيذ، لكنها لا تستطيع محو الحاجة إلى الحِس الجمالي والروحانية التي يمنحها هذا الفن العتيق.. أرى مستقبلًا يجمع بين الأصالة والابتكار، حيث يمكن دمج المنمنمات بالوسائط الرقمية بأسلوب يحافظ على روحها.
أطمح لاستكشاف أبعاد جديدة للهوية والذاكرة، وربطها بقضايا الإنسان المعاصر.. وأرغب في دمج عناصر التراث بالمقاربات الرقمية الحديثة، لإنتاج أعمال تواكب العصر وتطرح أسئلة جديدة عن الانتماء والوجود والجمال.
أنصحهم بالبحث العميق والدائم، وعدم الاكتفاء بالصور أو النسخ السطحية للتراث.. التعلم من الجذور، والتجريب المستمر، وإيجاد لغة شخصية، هي الطريق الوحيد لتحويل المعرفة التقليدية إلى إبداع حي ومعاصر.
أتمنى أن يُعرف اسمي كفنانة أعادت الحياة لفن المنمنمات، وأعمالي تكون جسرًا بين التراث والحداثة، لغة للتعبير عن الهوية والذاكرة.. وأطمح إلى أن تذكر أعمالي كجزء من حركة فنية تونسية معاصرة، تجمع بين العمق الروحي والجمال البصري، لتظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.
يَبقى فن المنمنمات، على الرغم من صغر حجمه وعظمة مضمونه الروحي، دليلًا راسخًا على براعة الإرث الفني.
فما نشاهده ليس مجرد رسوم مصغرة، بل هي مدونة بصرية بالغة الدقة لسير الحضارات، وتواصل دائم بين الفنان وذاكرة العالم.. وإذ نودع هذا الحوار الملهم مع الفنانة غادة العسكري، فإننا ننصرف وقد اكتسبنا وعيًا أعمق بأهمية هذا الفن في إغناء الساحة التشكيلية العالمية.
جميع الأعمال الفنية التشكيلية المستخدمة في المقال تعود ملكيتها الفنية للفنانة/
غادة العسكري.








التعليقات