الأكثر مشاهدة

المبنى الرمزي في قصص غسان كنفاني سالي علي* ليس من الصعب على من يقرأ قصص غسان كنف …

المبنى الرمزي في قصص غسان كنفاني

منذ سنة واحدة

388

0

المبنى الرمزي في قصص غسان كنفاني

سالي علي*

ليس من الصعب على من يقرأ قصص غسان كنفاني أن يلمح صورة التدرج الواعي المتعامد على واقعية صلبة محددة المخبر والمظهر، تتسم ملامحها بالبساطة ومزيد من الوضوح.
كأنما كان دائماً يحاول الاقتراب من حدود أهدافه التي يضعها لنفسه في أطوار مبكرة،  كأن تكون القصة واقعية مئة بالمئة وفي نفس الوقت تمنح شعوراً يوازي الواقعية المتجسدة في نفس الوقت.
ففي قصة “ما تبقى لكم” التي يعدها بعض النقاد غامضة، تكاد لا تشذ كثيراً عن تلك القاعدة، إذ كان غسان كنفاني يحاول تطويع طريقة التداعي وانعدام الفواصل بين مونولوجات شخصياته ليجعل القصة في أوضح المستويات الممكنة، قائمة على نظام واضح السمات مع أن تلك التقنية الفنية بطبيعتها تتخذ -لدى غيره من الكتاب- منحى الحلم المبهم المتصف بالإيماء والغموض والتأرجح والتداخل، إلى غير ذلك من فقدان الانضباط لحركة النفس الداخلية.
ورغم بلوغ غسان في التزامه الواقعية وصل الى درجة يتعذر فيها الفصل بين الواقعين؛ الحضاري الفني.
إننا لا نستطيع ان نعده وثائقيا في تسجيله أحداث قصصه وشخوصه، لأنه لم يكن ليكتفي بترتيب عناصر الواقع الحضاري على نحو تاريخي متفاضل أو متكامل بل كان يعيد ترتيب تلك العناصر ويمنحها التكثيف والتوجيه ويستغل فيها من صور المقارنات والمفارقات، حيث تجيء خلقاً جديداً هو الواقع وليس به، هو الواقع الذي يراه أو يريدنا أن نراه، ويراه المتلقي.
غسان كنفاني قاص متفنن ملتزم تدرج في طريقه نحو تلك الواقعية الصلبة، تدرج أيضاً في طريقة إلى الإفادة من الوسائل الفنية التي كان يعتقد بتحقيقها تلك الغايات.
فنجده مرةً يعتمد رسم المفارقات المتناظرة ونجده يلجأ مرة ثانية إلى إيثار البساطة الموحية بطبيعة الحوار، وثالثة يستغل عنصر الإمكانات الضرورية ليجمع بين كل هذه التقنيات بمهارة وتمكن.
ولعلنا نلحظ إصراره من البداية إلى النهاية على أنّ خير ما يبلغه هدفه هو طبيعة الشخصيات التي لا مناصَ لها من العيش ضمن إطار واقعيته المبتغاة.
فحين كتبت غسان “أم سعد” كان قد تنازل عن كل الحمولات الفنية في سبيل ألا يدع هناك أية مسافة بين الواقعين؛ الحضاري والفني.
إن القصة حين تترك أثراً عميقاً في نفوسنا فذلك لأنها كذلك؛ أعني بأننا نراها واقعية واضحة بسيطة كأنها دون تكلف لونا من ألوان الحكاية.
فهي من غير أن تتذرع للوصول إلينا بذرائع من فلسفة فكرية أو من إثارة عاطفية أو من تقنية مركبة أو غير تلكم الوسائل والعناصر.
لكن لا ريب في أن جعل القصة واقعية بالقدر الذي أراده غسان يعني المغامرة بأمور كثيرة قد كانت تحيط الفن القصصي بمزيد من القدرة على التأثير، وفي مقدمة تلك الأمور قيامُ القصة على الرمز.
إن قيام القصة على مبنيين ظاهري وداخلي يمنح القصة عمقاً خاصاً ويجعلها مليئة بالإيحاءات القابلة للفروض والاحتمالات وبقوة الرمز تتجدد ضروب التفسير وتحتفظ القصة بالديمومة وتتجدد فيها الطاقات رغم تغير الظروف.
فإذا شاءت القصة التي تتشبث بالواقعية المطلقة او شبه المطلقة أن تعوض عن قوة الرمز كان لابد لها أن تحتفل بزخم فني عجيب. وكل من يقرأ “عائد الى حيفا” أو ” أم سعد” أو “برقوق نيسان” يشعر حقا ان الرمز لم يعد ضرورياً، وعندما أصبحت مواجهة الحقيقة هي الشيء المهم، ولكن هل يظل الشعور حياً في نفوس القراء بمرور الزمن؟!
أياً كان الأمر فإن غسان لم يستطع أن يبلغ تلك المرحلة من الواقعية طفرة أو على نحو تعسفي، وإنما حاول استغلال المزاوجة بين بناءين ظاهري وباطني، وجرب طريقة الاعتماد على الرمز في الإيحاء والتأثير.
لست أظن بأن غسان حاول في قصصه المبنى الرمزي مرة أخرى، إلا أن يكون ذلك في “ما تبقى لكم” ولعله أدرك أن درجة “المئة بالمئة” من الواقعية لا تتلاءم مع البناء الرمزي بل ربما لم تكن بحاجة إليه لأن الواقع ً يحتوي على القدر الكافي من الثقل الفني ويستطيع أن يكون من جميع جهات بنائه مستقلا قائما بنفسه.
تعتمد قصة ” ما تبقى لكم ” على التوافق الزمني في حبكتها العامة، أي أن الأحداث والشخصيات ترتبط بزمن واحد.
رغم التباعد المكاني، وبتدخل من القاص لإبراز معنى الزمن بالنسبة لكل منها، وهذا ما حدا به إلى أن يجعل حضور كل شخصية قائما على التداعي  وكأن أحاديثها النفسية وأفعالها تتداخل، لارتباطها بعنصر الزمن.
وهي قصة تكمل “رجال في الشمس” في بعض نواحيها، فالقصتان تصوران محاولة الفلسطيني الهرب من واقعه ونزوحه للإستقرار وتشبثه بالحياة على نحو فردي. لكن الإرادة المسلوبة في الأولى أخذت تتضح وتتطور نحو التشكل عن الثانية، في القصة الأولى كانت الولادة ميتة حتى دق على جدار الخزان فلم يحدث.
أما في القصة الثانية فكل شيء يدق وينبض: مؤشر الزمن سواء أكانت الساعة التي في بيت مريم أم الساعة التي ألقى بها حامد في حضن الأرض والخطوات التي تدق على صدر الصحراء والجنين ينبض أيضاً، الشهوات تدق، مجاذيف القوارب،  التي نقلت المهاجرين أيضا تدق، حتى الصمت نفسه ظن غسان بأنه يدق له صوتا. كل شيء يتهيأ للولادة وذلك لأن الموت المبكر الذي أصاب سالم الفدائي قد حرك شرارة الانبعاث في كل نفس ..
إذا لم تكن الولادة في “ما تبقى لكم” كالولادة في “رجال في الشمس” وإن كان الموت لا يزال هو المسيطر على نهايات الأشخاص ولكنه موت من نوع جديد لأن إرادة الموت لدى “سالم” سرت الأخرين.
 أما “ما تبقى لكم” فتؤكد الحقيقة الكبرى التي أكدتها القصة السابقة لها وهي أن كل طريق بعيدة عن الوطن مرصودة بموت مجاني ومن ثم تشهد الأرض كيف أن “حامد” انحرف في طريقه عما يرده إلى الماضي، إلى أمه، وإن هذا الانحراف سيقربه من غايته الصحيحة ويوقفه أمام خصمه وقد يصطدم الزمن بالفعل فيصبح غير ذي قيمة ..”ما تبقي لكم” تمثل تجرد النفس الفلسطينية من كل السلبيات الثقيلة التي كانت ترزح تحتها وهي صلة جديدة بالواقع وبالأرض حتى ولو كانت ولادة بطيئة متعسرة فهي نظرة وداع غير مأسوف فيه على ماض يتوارى ويغيب.

 

*كاتبة صحافية سورية

التعليقات

اترك تعليقاً

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود