19
027
0104
050
075
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11897
05672
05622
05311
04865
0
هدى الشهري
ولد غازي القصيبي في بيئة مليئة بالحزن، لوفاة والدته وهو طفل رضيع، فنشأ مع والده وجدته لأمه وحيدًا، بلا أقران أو أطفال بعمره يؤنسونه. وفي ذلك يقول غازي، “ترعرعت متأرجحًا بين قطبين؛ أولهما أبي، وكان يتسم بالشدة والصرامة (كان الخروج للشارع محرّمًا على سبيل المثال)، وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على (الصغير اليتيم)”.
وعلى الرغم من هذه الظروف الخاصة؛ فإنه خرج من ذلك المأزق بمبدأ إداري يجزم بأن “السلطة بلا حزم، تؤدي إلى تسيب خطر، وأن الحزم، بلا رحمة، يؤدي إلى طغيان أشد خطورة”. هذا المبدأ الذي عايشه غازي في طفولته، جعله يتعامل به في حياته، وكان سببًا في نجاحاته المتواصلة في المجال الإداري.
كان للمدرسة التي التحق بها شاعرنا في المنامة تأثير كبير في إخراجه من أجواء الوحدة ، مما ساعده على تكوين الكثير من الصداقات، فأنهى تعليمه الثانوي في المنامة، ثم التحق بكلية الحقوق في القاهرة، واستكمل تعليمه بها، وكانت هذه التجربة حسب تعبيره “غنية بلا حدود”.
هي كذلك بالفعل إذ يُقال إن رواية “شقة الحرية” التي كتبها، وكانت هي الأخرى غنية بلا حدود، تحكي التجربة الواقعية لغازي أثناء دراسته في القاهرة؛ ففي شقة الحرية استطاع القصيبي أن يلخص فترة الستينيات بكل اضطراباتها ومميزاتها، ويتنقل بين الفلسفة والسياسة والدين ومشكلات الشباب والبحث عن الهوية والحب والشعر، كما مثلت شخصيات شقة الحرية المواطن العربي من كل جنسياته، من خلال أربعة شباب من البحرين سافروا إلى القاهرة للدراسة.
وبعد عودته من القاهرة عُرِض عليه كثير من المناصب، ورفضها لاستكمال دراسته، ومن هنا انطلق تحدوه أحلامه وآماله الواسعة تجاه مدينة لوس أنجلوس، متوجاً سنواته الدراسية بالحصول على درجة الماجستير في(العلاقات الدولية).
وبعد العودة إلى الوطن، ظلت الرغبة في الحصول على درجة الدكتوراه والعمل بالتدريس الجامعي تلح على تفكير القصيبي، وفي غضون ذلك مارس الشاعر العديد من المهام، التي دفعت باسمه إلى الساحة كواحد من أشهر المثقفين، الذي لا يتورع عن القيام بما يخدم بلده.
بعد فترة قصيرة سافر للندن لتحضير الدكتوراه في “حرب اليمن”، وكان أحد أعضاء اللجنة الأهلية لإنهاء الحرب في اليمن، وبعد عودته إلى أرض الوطن سُنِحت له الكثير من الفرص ساعدت على صقل شخصيته، وتوسيع مداركه؛ فقد عمل بالكتابة بشكل نصف شهري في جريدة الرياض، مع إعداد برنامج تلفزيوني أسبوعي يتابع المستجدات في العلاقات الدولية، وكان لظهوره الإعلامي دور لترسيخ هذا الاسم بذاكرة العامة.
قام غازي القصيبي برفض الكثيرمن المناصب، ولكن كان لإدارة المؤسسة العامة للسكك الحديدية دورفي”إخراج الإداري الذي ولد بداخل الأكاديمي”؛ حسب تعبيره عن نفسه.
ثم توالت الوزارات بعد ذلك، وفي كل وزارة تولاها كان يترك بصماته الشخصية فيها؛ ففي أثناء توليه لوزارة الصناعة والكهرباء ساهم في إدخال الكهرباء لمعظم المنازل، وإنشاء شركة “سابك”، وحين كان وزيرًا للصحة كان صاحب السبق في وضع الآية القرآنية ﴿وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ یَشۡفِینِ﴾ بالمستشفيات إلى غير ذلك من الإنجازات التي خلدها التاريخ.
لم يكن غازي القصيبي مجرد سياسي أو شاعر أو ناثر، كان شخصية متفردة بما لديه من أخلاقيات الإنسان المثقف، تربطه أواصر قوية بما يعمله.
ذكره معلمه الأديب الراحل عبد الله بن محمد الطائي ضمن الشعراء المجددين في كتابه “دراسات عن الخليج العربي” قائلًا: “أخط اسم غازي القصيبي، وأشعر أن قلبي يقول ها أنت أمام مدخل مدينة المجددين، وأطلقت عليه عندما أصدر ديوانه “أشعار من جزائر اللؤلؤ” الدم الجديد، وكان فعلًا دمًا جديدًا سمعناه يهتف بالشعر في الستينيات، ولم يقف، بل سار مصعدًا، يجدد في أسلوب شعره، وألفاظه ومواضيعه”.
إن ما يميز غازي القصيبي تجربته الثرية بكل فصولها.. ومحاولاته الصادقة في التغيير من خلال مناصبه الحساسة وقربه من الناس.. إخلاصه وتفانيه في أداء عمله.. حتى في حروبه التي أجبرته الظروف على خوضها مع خصومه فلم يفر منها يومًا، وكأنه يقول منذ زمن: “وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ”.. ليعلمنا معنى الشجاعة أثناء المواجهة والتلذذ بضراوة الحرب وإن حمي وطيسها!! فهو مسؤول مقاتل، محارب وعاشق.. يعمل وقلمه بين يديه، لا يكل ولا يمل، وإن ضاقت به السبل بعد ألف محاولة ظلت أصابعه حاضرة في أرض المعركة وكأن قلمه هو سيفه ورمحه، وجيشه.
وخيرما نبدأ به جولتنا في رحاب شعره، قصيدته الجميلة “نحن الحجاز ونحن نجد” ففي هذا النص تحديد جغرافي لتكتسب الدلالات عمقًا تاريخيًّا يقتحم الصورالتي تشكل انفجارًاعاطفيًّا يرتفع فيه صوت الفخروالاعتزازوالتحدي، ولذلك ردد القصيبي لفظة “نحن” التي حولت النص إلى صرخة انفعالية قوية.
أجل نحن الحجازُ ونحن نجدُ هنا مجدٌ لنا وهناك مجـدُ
نحن جزيـرة العـرب افتداها ويفديهـا غطارفةٌ وأسـدُ
ونـحـن شـمـالـنـا كـبـرٌ أشـمٌّ ونحن جنوبـنا كبرٌ أشـدُّ
ونحن عسيرُ مطلبها عسيـرٌ ودون جبالها برقٌ ورعدُ
ونحن الشاطئُ الشرقيُّ بحرٌ وأصدافٌ وأسيافٌ وحشدُ
وسنقف هنا مع واحدة من أجمل شعره، قصيدته “حديقة الغروب” والتي يقول فيها:
خمسٌ وستُونَ في أجفان إعصارِ أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟!
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هـدأت إلا وألـقـتـك في وعـثـاءِ أسـفـار؟!
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا يحـاورونـكَ بالـكبـريـتِ والـنارِ؟!
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ سـوى ثُـمـالــةِ أيـامٍ.. وتــذكـارِ؟!
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا قلبي العناءَ!… ولكن تلك أقداري
ففي الأبيات السابقة قام الشاعربرثاء نفسه، والبكاء على حالها، وفي قمة الضيق والإحساس بالأسى، يلجأ الشاعرلأقرب الناس إليه(زوجته) التي لطالما كانت الرفيق المحب، الحنون، الذي يلجأ إليه في أحلك الأوقات:
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي والغيـم محبـرتي.. والأفـقَ أشعاري
ففي هذه القصيدة برزت الثنائيات الضدية، مما كان له دور كبير في تماسك النص،وقد جاءت هذه القصيدة ضمن ديوان يحمل اسمها، فكانت قصائده مليئة بالشجن، ومرارة الفقد، لمن رحلوا وتركوا قلبه ينزف حزناً.
كان غازي حاضرًا بشاعريته في الكثيرمن المناسبات، ليخلد ذلك الحدث بقصيدة تتناقلها الناس وسأقف عند إحداها لجمالها، وما تركته فينا من عظيم الأثر، وسأبدأ برائعته “ضرب من العشق” والتي كتبها بمناسبة افتتاح جسر الملك فهد رحمه الله، والتي يقول في مطلعها:
ضربٌ من العشق لا دربٌ من الحجرِ
هذا الذي طار بالواحات للجزرِ
نظم الشاعر هذه القصيدة على بحر البسيط جاعلًا من حرف الراء رويّا لها، وهو حرف حنكيّ متكرّر، يحوّل تواتُرُه القصيدة إلى زغرودة فرح. وهذا التواتر لم يقف عند الرويّ بل شمل مختلف الأبيات منطلقًا من البيت الأوّل.
ساق الخيام الى الشطآن فانزلقتْ
عبر المياه شراعٌ أبيض الخَفَرِ
ماذا أرى؟ زورق في الماء مندفع
أم أنه جملٌ ما مل من سفرِ؟
وهذه أغنيات الغوص في أذني
أم الحداةُ شَدَوا بالشعرِ في السَحَرِ
إنّه مشهد يفوق الخيال ما كان يخطر على بال الشاعر، لذا كان وجه العجب من مشهد هذا الجسر الطويل الممتدّ بين السعودية والبحرين، جسر رأى فيه غازي القصيبي وحدة بين حضارتين، الأولى صحراوية والثانية بحرية. فأغنيات الغوص وأصوات الحداء متشابهة يصعب عليه التمييز بينها، والنخل صار مطوّقًا بالأصداف والدرر.
وتأتي الصور الشعرية لتزيل الحدود الجغرافية، فاجتمعت لدى الشاعر في مكان واحد جلّ مدن السعودية والخليج (الرياض- المنامة- جدّة – المحرّق – مسقط- الدوحة- الكويت – العين) واستوت لديه مختلف المدن دون مفاضلة (بدو وبحّارة، لا فرق بينهما).
نسيتُ أين أنا إن الرياض هنا
مع المنامةِ مشغولانِ بالسمَرِ
أم هذه جدةٌ جاءت بأنجُمِهَا
أم المُحَرقُ زارتَنا معَ القَمَرِ
وهذه ضحكاتُ الفجرِ في الخُبرِ
أم الرفاعُ رنت في موسمِ المطرِ
أم أنها مسقط ُ السمراءُ زائرتي
أم أنها الدوحةُ الخضراءُ في قَطَرِ
أم الكويتُ التي حيت فهِمتُ بها؟
أم أنها العينُ كم في العينِ من حَوَرِ؟
بدوٌ وبحارةٌ ما الفرقُ بينهما
والبرُ والبحر ينسابانِ مِنْ مُضَرِ
وفي البيت القادم أثبت القصيبي أننا أخوة نلتقي في طريق واحد حيث يقول:
خليجُ إن حبالَ الله تربطُنَا
فهلْ يفرّقُنا خيطٌ مِنَ البَشَرِ؟!
فلا مسافة ولا حدود، باستخدامه النداء دون حرف للدلالة على القرب الشديد.
ولا يفوتنا الوقوف عند قصيدته”أغنية في ليل استوائي”، والتي يقول فيها:
فقولي إنه القمر!
أو البحر الذي ما انفك بالأمواج ..
والرغبات يستعر
أو الرمل الذي تلمع
في حبّاته الدرر
لجوز الهند رائحة
كما لا يعرف الثمر
… فقولي إنه الشجر!
وفي الغابة موسيقى
طبول تنتشي ألماً
وعرس ملؤه الكدر
.. فقولي إنه الوتر
أيا لؤلؤتي السمراء!
يا أجمل ما أفضى له سفر
خطرتِ .. فماجت الأنداء .. والأهواء ..
والأشذاء .. والصور
وجئت أنا
وفي أهدابي الضجر
وفي أظفاري الضجر
وفي روحي بركان
ولكن ليس ينفجر
تمتليء هذه القصيدة بالأنين الداخلي ولكنه ليس ينفجر، فهذه القصيدة تعتبرمعزوفة جنائزية لقلب مات وحل محله حجر وطهر غاض فلم يلمح له أثر حيث يحلو للشاعر إظهار ما لا يبطن.
اتفق الكثيرون على كون غازي القصيبي قامة من قامات المملكة العربية السعودية ومثقفيها، فهو السياسي والشاعر الكبير، الذي رحل منذ سنوات مضت، وبالرغم من رحيله منذ أكثر من عقد من الزمان، إلا أنّ اسمه لا زال يُذكر بالعديد من الإنجازات، حيثُ عرف بأنه الأديب الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفات ثرية، أسهمت في إنارة العقول، وتغذية الذائقة الأدبية.
فقدألف القصيبي أكثر من سبعين مؤلفًا، منها على سبيل الذكر لا الحصر( العصفورية ـ أبو شلاخ المائي ـ رجل جاء وذهب ـ الخليج يتحدث شعراً ونثراًـ الوزير المرافق).
وخير خاتمة لمقالي هذا وقفة مع أقصوصة “الزهايمر” لشاعرنا الإنسان، فمن خلال السرد لهذا العمل الفذّ يلامس القصيبي قضية إنسانية حساسة، والتي ترتبط بمرض الزهايمر، ومراحل هجران الذاکرة، ففي هذا العمل يتشکل المريض بمزيج من المفارقات التي تتأرجح بين ثنائيتي: الذاکرة والنسيان، النسيان الذي يعصف بالأشياء الصغيرة وصولا إلى الإدراک، والوعي، ونسيان الذات، والذاکرة التي تحارب المرض بالتدوين وکتابة رسائل ما قبل الرحيل.
وسأترككم مع بعض الاقتباسات من هذا العمل الجميل:
“كل يوم أعيشه هو هدية من الله ولن أضيعه بالقلق من المستقبل أو الحسره على الماضي” |
“إذا ذهب العقل ذهبت معه الكرامة. هذه الحقيقة يعبر عنها المثل الشعبي “إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب” |
“الكرامة البشرية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالعقل البشري. إذا ذهب العقل ذهبت معه الكرامة” |
“بلا ذاكره لاتوجد تجارب .. لا يوجد سوى الفراغ .. فراغ الموت” |
التعليقات