مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

حسن أجبوه* أتفادى صراخها ونكدها المستمرين بالتجاهل، هو سلاحي الوحيد والفتاك الذي …

الوجه الآخر لشحاته

منذ سنة واحدة

432

0

حسن أجبوه*

أتفادى صراخها ونكدها المستمرين بالتجاهل، هو سلاحي الوحيد والفتاك الذي يجنبني الهزائم المتكررة في مواجهتها، في كل مرة تبدأ بإطنابي بأغانيها المشروخة، أصمت وأشعل ما تبقى من أعقاب السجائر واحدة تلو الأخرى، وأتلذذ بمشاهدة شفتيها تتراقصان بكلمات لا أسمعها.. فقد ألفتها عن ظهر قلب:
– إلى متى ستظل بلا شغل؟ تقاعدك الزهيد لا يكفي حتى لشراء حليب ابنك الرضيع، تحرك كما يفعل الرجال، انبش في الأرض علك تجد كنزًا يغنينا عن العوز والفاقة. إلى متى ستظل أمي تطعم أبناءك؟ اذهب وترجى السيدة كما أقرانك…
منذ أن حلت السيدة ببلدتنا، وأطلقت شباكها على من بالقرية كأخطبوط تمتد أذرعه لتحوط الجميع، بدءًا بالنساء اللواتي جمعتهن في تعاونيات لإنتاج “الاركان” يقمن بقطفه وجمعه وتحميصه ثم طحنه وتقديمه بقارورات أعدتها للتصدير. ويتقاضين أجرة شهرية جراء ذلك.. لذا حماتي كانت وما زالت من أشد المدافعات عنها، في كل مرة تزورنا لا تنفك تحمس زوجتي وتتلاعب بدماغها لإقناعها بالعمل معهن.
– للمرة الألف أكررها، أتحدث بتحد ويدي اليمنى تبحث عما تبقى من أعقاب علني أفلح بإيجاد مهرب من كلامها.. تلك السيدة ملعونة كل الرجال الذين تملقوها ودلفوا أفواجًا إلى عالمها، أصابتهم اللعنة، وتعرضوا لحوادث مختلفة عجلت بمقتلهم، ولك عبرة في أخي الأكبر! سأظل أكررها:
– إنها قاتلة!
– الموت قضاء وقدر، خير أن تموت وأنت تحت وصايتها ويستفيد أبناؤك من تقاعدك، على أن تستكين بجواري بالمنزل تعد خطواتي. وأخوك الأكبر الله يرحمه لم يقتله أحد. وما حدث له حادثة هو المسؤول الأول والأخير عنها، فالمفروض بالسائق المحترف مراقبة فرامل السيارة قبل ركوبها.. لا تحاول لوم السيدة فلولا الاتصال المفاجئ لكانت ذهبت ضحية الاصطدام مثله. والآن دعني من توهماتك وأخبرني لماذا تمنعني من العمل مثل باقي النساء؟!
أتممت رشف ما تبقى في كأس الشاي، ولعنت في قرارة نفسي الزواج والأولاد والبلدة وكل شيء، نهضت من على الكرسي الخشبي، لبست جلبابي واستشطت غضبًا عندما لم أجد الورقة النقدية التي عزمت صرفها بالمقهى!
– ألا يكفيك معاشي؟ تسرقين السنتيمات المتبقية التي كنت أنوي حرقها بصدري؟
– لو كنت تهتم بعيالك ومتطلباتهم لما حرقت نقودك بالسجائر، وجلسات النرجيلة! إذا لم تقرر بمصيري سأخلي لك البيت وأذهب لدار أمي. 
خرجت متعثرًا في مشيتي. اللعنة على هذه المرأة، ما من حل لدي سوى استجداء السيدة لتقبل بي عاملًا عندها! ما الضير في ذلك؟ الجميع يتهافت للتزلف إليها، ربما أفكاري حولها، مجرد هلوسات ومسألة موت الرجال الأربعة، مجرد حوادث عارضة لا دخل لها بهم. 
استعدت رباطة جأشي لما أقرضني نادل المقهى سيجارة لعينة، استوعبها جوفي كما يستوعب القرش الأسماك الصغيرة. وقفت أمام باب قصرها شاردًا متفكرًا في الطريقة التي سأبدأ بها توسلاتي. فجأة انفتحت الأبواب على مصراعيها وخرج البواب بشاربه الكث وبذلته السوداء، نظر في وجهي كمن يبحث عن عدو مفترض وصاح:
– السيدة تطلبك، هي تنتظرك بالردهة.
دلفت وراءه مطأطئًا رأسي الأشيب، كمن يساق من القطيع لحتفه، عند الباب الزجاجي الشفاف، استلقفتني شابة بعيون شاردة وبذلة قصيرة ناصعة البياض، سرت وراءها حتى أشارت لي أن أجلس على أريكة جلدية سوداء وانصرفت، بسرعة ودون مقدمات تلقفت علبة للسجائر الشقراء من فوق المنضدة وأخفيتها بجيب البنطلون. لا أدري ما دهاني! كأن ضميري عنفني، فأخرجتها مكرهًا، وأعدتها لموضعها متحيرًا في موقفي ماذا لو كان بالبيت كاميرات للمراقبة! عادت الفتاة تحمل صينية مشروبات وضعتها وانصرفت دون كلام. وضعت نصف ملعقة سكر بفنجان القهوة، وبدأت برشفها متحولًا بنظري بين  اللوحات التي تزين الصالون، بغتة قدمت السيدة تسبقها رائحة العطر الثمين.
– مرحبًا بك يا شحاته، من فضلك خذ علبة السجائر ودخن كما تشاء، فأنا التي جلبتها لك.
كطفل مطيع، نفذت أوامرها والعرق يتصبب بغزارة من جبيني، رغم أن القصر به تكييف، وقبل أن أفتح فاهي لأشرح لها دواعي قدومي، قرأت ما يدور بخلدي:
– أعرف أنك مرتبك، في الحقيقة كنت أتوقع قدومك من قبل، خصوصًا في اليوم الذي مات فيه أخوك الأكبر، لتتهمني بقتله.. على العموم، اسمعني جيدًا يا شحاته، لا تتوهم أني لا أعرف ما تتفوه به في البلدة من اتهامات لي، لا تخف  لن يكون مصيرك مثل أخيك وأصدقائه الثلاثة، فما زلت أحفظ لك معروفك الذي قمت به عندما صرخت وهرب الجبناء الأربعة الذين اغتصبوا طفولتي.
نعم أنا سعدية الطفلة التي تناوب أخوك وأصحابه اغتصابي وكانوا ينوون قتلي لولا صراخك بطلب أخيك لكنت في عداد الأموات.
عندها جف حلقي وعادت لذهني الذكريات الأليمة كشريط بالأسود والأبيض.. وودت أن أبرر فعلتهم. لكنها قاطعتني:
– تريد أن تتأكد من قتلي لهم؟
 تبسمت ابتسامة بلهاء وأردفت:
– لقد نهضت وتعافيت ورجعت خصيصًا من أجلكم.
هممت بالانصراف، لكن أحسست بأكف غليضة تضغط على جسمي وتمنعني من القيام… 
– اجلس يا شحاته! وبما أنك عرفت السر، سأتركك تعيش لكن وفق منهجي. 
أنت الآن، خادمي كما كل رجال ونساء البلدة، لكن دورك سيكون مخالفًا لهم، وأجرك بطبيعة الحال أكثر منهم:
ستستمر كما كنت معارضًا شرسًا لسياساتي ونهجي، ستقول كل ما سأمليه عليك مهاجمًا إياي بالمقهى وبجلساتكم لتدخين النرجيلة، لا أريد أشخاصًا يمدحونني خوفًا، أريد معرفة أعدائي المحتملين وهذه مهمتك، سيكون لك ولزوجتك وأبنائك رصيد بالبنك، وكل نفقات البيت ستجلبها حماتك. وأنت، استمر كما أنت.. مفهوم؟

*كاتب المغرب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود