مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

مراد ناجح عزيز* تحت ضغط إلحاحها الشّديد ومعسول كلماتها الناعمة أحيانًا، والتي تَ …

أصابع العوز

منذ 4 أيام

14

0

مراد ناجح عزيز*

تحت ضغط إلحاحها الشّديد ومعسول كلماتها الناعمة أحيانًا، والتي تَجيدها ببراعة أو كما يُقال:

(تعرف من أين تؤكل الكتف) واللّاذعة أحايين أخرى، تفككت قسمات وجهه الغابة، وقد أبدى موافقته المبدئيّة على التّقدم لشغل وظيفة ما في إحدى الشّركات الخاصة. 

ربّما كان ذلك سببًا لمضاعفة دَخله الزهيد من عمله الحالي، وإعادة ما كان بينهما من حياة هادئة.

بوجهها الصّبوح أشرقت فتاتهما الصّغيرة بعد قسط من نومها، كان من شأن وجودها تهدئة الموقف دون أن تتصاعد أبخرة من فوّهات كلماتهم المحتبسة ضيقًا، مداعبة راحت زوجته تقرأ من كتاب في يدها، بينما هي جالسة أمام شاشة التلفاز كأنّما توجه كلماتها لطفلتها الصّغيرة: أي الأمثال يتّفق مع مقولة لا تستطيع بمفردك فعل كل شيء؟ بعفويّة الأطفال قالت ابنتها: (القفّه اللي ليها ودنين يشيلوها اتنين). 

راح بدوره يرفع حاجبيه أعلى عدسات نظّارته، متخابثًا ينظر إليهما دون إشارة منه لرد فعل كان من شأنه تغيير مسار الحديث أو مشاركته لهم.

قبل الموعد المحدد كان أول الحاضرين إلى مقر الشّركة، لاسيّما وقد استعد هو الآخر سلفًا دون علم زوجته للتقدّم للوظيفة نفسها، متأبّطًا حقيبة سوداء، انتفخت بطنها لكثرة ما تحتويه من أوراق، إضافة لأجندة صغيرة، عادة ما كانت تلازمه، ربّما احتاج الأمر لتدوين بعض ملاحظاته اليومية، كتاب يأنس به في حال ما اشتد به الملل انتظارًا.

(صباح الخير يافندم) تحيّة تتصاعد تدريجيًّا من شخص لآخر، خطوات واثقة تقطع طريقها إلى حُجرة لا تفارقها العيون حتّى إغلاق بابها، نعم يبدو أنه صاحب الشّركة، تصاحبه رائحة باريسيّة النكهة، بمجرّد سماع دوي الجرس، يتعجّل السّاعي يحمل قهوته الصّباحيّة بعد أن اطمأن على نظافة هيئته ولمعة حِذائه.

ثمة سكرتيرة ممتلئة القوام، طاغية الأنوثة، تحاصرها النظرات تباعًا كلّما تحرّكت يمينًا أو يسارًا في محاولة منها على ما يبدو تخفيف حِدّة الانتظار أو هو عطش البعض منّا لابتزاز عواطفه الكامنة تحت أغطية من الجري ليل نهار بحثًا عن لقمة العيش.

بدأ العد التنازلي للدخول تِباعًا، راح يقلِّب بعض أوراقه للتأكّد من سلامتها، مكتفيًا بعمل بعض المكالمات الهاتفية، لاعتقاده بأهميّتها في هذا التوقيت، تفكيكًا لاحتمال انتظاره لمدّة أطول، قاطعه صوت السكرتيرة الحسناء بندائها الذي يشبه أنغام الموسيقى في نهار ربيعي: (اتفضّل يا فندم).

خطوات قليلة كانت كفيلة بين يدي صاحب الشّركة، قابضًا ما بين إصبعيه نوعًا فاخرًا من السّجائر، عاليًا تسمع صوت أنفاسك، إضاءة تفكّك عزيمة الغريب بدخول مدينة لا يعرف أحدًا فيها، تدريجيًّا فارقني ذلك الشّعور بعد حِوار بسيط تخلله بعض الكلمات الرقيقة متسائلًا عن سبب التقدم للوظيفة، واكتمال الأوراق المطلوبة، ثم أردف قائلًا:

موفّق إن شاء الله.

تركت ملف أوراقي أمامه مُنصرفًا، تحملني قدماي خارج المكتب دون إشارة منه بالقبول أو الرفض، هي مجرّد محاولة لا أكثر، كلمات ربّما تُهادن رغبتي حال لم يُحالفني الحظ للحصول على الوظيفة، إلا أنّها في حقيقة الأمر كانت ضمادة على جرح طالما ظل يُدمي حياتنا كلّما امتدّت إليه أصابع العَوز.

ابتسامة رقيقة ربّما تخبئ بين طيّاتها رغبة في شيء ما، حتّى وجدتها طوّقتني بذراعيها دون خجل أمام ابنتها الصّغيرة، الأمر الذي لم تعتد عليه أو كان من طبيعتها استحضار تلك اللحظات الرّومانسيّة إلا فيما ندر، أفصحت عن سر ابتسامتها سريعًا وقالت: إن رسالة من الشّركة أخبرتها بقبولها للوظيفة، لم أتمالك نفسي ضَحِكًا وأنا أخبرها أن تقديم الأوراق كان يتطلّب الحضور وإجراء المقابلة، وهذا لم يحدث، حاولت تأكيد كلماتي لها وأنا أفتش عن أوراقها داخل حقيبتي كما أكّدت لها، وأنّه مَن تقدّم لشغل الوظيفة وإجراء المقابلة.

بالفعل حدث خلط أوراق، وخطأً قدّمت أوراقها (نور الرفاعي عِتمان) لتعجّلي في الخروج، للتّو تَحوّل عِناقها هجرًا وقد تراجعت لمسافة تسمح لها بالتأكّد من صحّة ما أقول، أو ربّما هي إحدى مُداعباته لها، إلّا أنّها وبعد تأكّدها من صدق كلماته، لم يثنها عن انفجارها ضحِكًا، ومواصلة الغِناء والرّقص على أنغام موسيقى تسمع لها وحدها.

*كاتب من مصر

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود