الأكثر مشاهدة

‎‎بقلم: خالد سعود العتيبي* ثيمة البداوة متأصلة في نفوسنا لم تنقطع عنا يومًا، ترا …

علاقة البداوة بالسرد

منذ 3 أشهر

82

0

بقلم: خالد سعود العتيبي*

ثيمة البداوة متأصلة في نفوسنا لم تنقطع عنا يومًا، تراب الصحراء الذي تكون منه يجري بشراييننا.
كيف ننسى تلك الحياة التي صنعت رجالًا، ولا زالت تربيهم في أحضان ترابها، ما نحن إلا امتداد لهم، متمسكين بعاداتهم،
محافظين عليها لا نفرط بها، وهل يفرّط الإنسان بمروءته؟

لم يُفقد نصب الخيام، ولا استقبال الكرام، أنغام الطبول لا تزال تُضرب.. ليست طبول الحرب بل طبول الأسخياء، يطربون لسماعها كل صباحٍ أمام جمر الغضا، فيشمون عبق البن يفوح من ذلك الجمر المتوقد، وبعد تلذذهم بطبخها ها هم يرددون:
“أدر مهجة الصبح
صُبّ لنا وطنًا في الكؤوسْ
يُدير الرؤوسْ
وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابهْ
أدر مهجة الصبحِ
واسفح على قِلَلِ القوم قهوتك المُرّة المستطابهْ
أدر مهجة الصبح ممزوجة باللَّظى
وقلّب مواجعنا فوق جمر الغضا”

فحيح الشمس، السير على الرمضاء، سموم الصحراء، ملاحقة الوِرد، السير مع النوق، تسريح البهم، ترقب السباع ليلًا،
رؤية مجرات السماء، التمام السُّمَّار، سماع حكايات الآباء والأجداد، مطاردة الربيع، النظر للخزام، والبسباس، واليهق،
والإذخر، احتطاب السمر، احتضان الجمر للاستدفاء، سماع زخات المطر فوق الخيام هذه موسيقى الصحراء.

ارتباط البداوة بالسرد هو نتيجة لعدة أشياء؛ محور النطاق الزمني الذي تدور فيه أحداث هذه القصة، فلذلك ارتباطها بالبداوة واجب، فكل من الزمان والمكان يُؤصلان ثبات البداوة في هذا الطرح.
زيادة على ذلك العودة لتراثنا وإحيائه في السرد الروائي؛ وذلك بتوجيه الروائيين نحو هذا النوع من السرد في المملكة العربية السعودية بدعم من وزارة الثقافة والفنون.

ملخص الرواية:
تقع في 148صفحة. رواية تدور قصتها في الصحراء في عام 1921م، لعائلة رجل اسمه شليويح قد اعتزل قبيلته، واجتماعات الناس لقصة قديمة قد وقعت عليه، وبسببها توفي ولداه وكان وقت وفاة كل واحد منهما في بداية سن البلوغ. 
بعد اعتزال شليويح بقيت له ابنة اسمها عشبة وابن أصغر منها اسمه زبن.

شليويح كان لخوفه على عائلته قد غادر قريته وبقي يعيش في الصحراء مع عائلته الصغيرة وإبله القليلة يرعاها، ويمر الآبار قليلًا ليتزود منها ولا يحتك بالناس الواردة.

إلى أن كبر ابنه زبن فأصبح شابًا يعتمد عليه، وكان صديق والده، علمه الرماية، ووسلوم البدو في مجالس الرجال، ورعاية الإبل وركوبها؛ وعندما اشتد عوده أصبح يتمرد على والده ويخالفه في معتقده الذي هجر به الناس.. فكان يذهب دائمًا لمواطن الماء ويلتقي بالقبائل ويتعرف عليهم ويحتك بهم ويروي إبله، حتى جاء اليوم الذي رضخ فيه والده وقام
بأخذ ابنه لقبيلتهم ونزل عند أخيه شالح.

بعد عودة شليويح وعائلته بدأت حياته تعود شيئًا فشيئًا.. حتى سمع ذات يوم صوت امرأة كانت في خيمته تجلس مع أهله. 
عندما رآها صُدم وذُهل.. كانت قمرًا هي المرأة التي كان يتواعد هو وإياها سرًا قبل أن يتزوج بزوجته الحالية فهدة. كانا يتلقيان كل ليل في المرعى ويتسامران مع بعضهما لبعض.. بقيا على هذه الحال فترة حتى جاء اليوم الذي رأى فيه أخو قمرا شليويح وأخته مع بعضهما، فحاول شليويح تهدئته، لكنه أبى وقام شليويح بقتل أخي قمرا ودفنه.
وقمرا لحبها له لم تقل لأحد ولم تشي به وهرب بعدها، وعلم شليويح أن قمرا تزوجت وقد تزوج هو، لكنها كانت تنتظره بعد أن تطلقت من زوجين مختلفين.

كانت هذه القصة التي جعلت شليويح يغادر قبيلته ويعتزلها لفترة حتى عاد. لكن عودته لم تكن بسلام فقد كانت قمرا تحبه.. لكن هذا الحب تحول لحقد كبير تسبب بمصائب؛ حيث إن قمرا تعيش وحدها وقد طلبت أن يتزوجها شليويح بعد لقائهم.. لكنه رفض فأرادت الانتقام، فأخذت سحرًا وضعته لابنته.. فُك هذا السحر بصعوبة.
كما لم يسلم زبن ابن شليويح.. فقد كان يحب فتاة اسمها الجازي، وقد فُتن بها كان يلاقيها ليلًا أحيانًا وتواعدا مرة بعد عرس  في أحد الأيام. جاءت الجازي وهو يرحب بها وأعطته قطعة لحم خبأتها له من العرس.. لكن اللحم مسموم ومن أعطاها اللحم كانت قمرا وتعلم بأمر لقائهم، فأكل اللحم ومات مقتولًا من حبيبة والده القديمة، صُدمت الأم وتوفيت بعد أيام من موت ابنها. من قتلهم كان الحب القديم المشؤوم الذي تحول لكره.

الشخصيات الرئيسة:
شليويح الأب:
كانت شخصية تمثل رمز العطاء والتضحية، فشخصيته تمثل الوحدة فتشكلت لها صورها النفسية بالمواقف التي وقعت عليها، قصة حبه الأولى الذي جعله يغادر ويعيش في الخارج حتى تبقى عائلته بسلام، إلى نهاية الرواية حين يموت أفراد عائلته ولم يبق له إلا ابنته التي تزوجت، فيرحل وحيدًا هائمًا في الصحراء مع إبله بسبب الحب الذي انقلب حقدًا.
ابنه زبن:
ترمز شخصيته للتمرد الكبير، فقد خالف معتقد والده الذي كان يفضل البقاء وحيدًا في الصحراء على أن يعود لقبيلته، لكن ابنه له رأي آخر فكان دائمًا يحتك بالناس ويلتقي بهم حتى عاد والده لعشيرته، وتدل شخصيته على أنها تجهل نفسها في البداية؛ شخصية جمعت بين الخوف والقوة فقد عُرف زبن بأنه فارس ورام جيد بالسلاح، ما جعل له اسما في القبيلة.

ويمثل الحلم المفقود، الشخص الذي يصل لحلمه دون عناء كبير في قصة حبه مع الجازي، لكنه يموت من قمرا حبيبة والده دون ذنب منه، كانت غاية قتله الوحيدة مجرد الانتقام دون سبب شخصي بينه وبين قمرا.

وابنته عشبة:
الشخصية التي تمثل الحيرة، حيرتها في الوقوع بالحب أو حيرتها في بقائها طوال حياتها بعيدة عن عشيرتها، تطورت الشخصية تطورًا واضحًا بالمصائت التي انهالت عليها، أولًا: بعودتهم لقبيلتهم، وثانيًا: برؤيتها شخصًا أحبته هو سعد،
وقعت في غرامه ودخلت في دوامة من الحيرة وسبب آخر بتغير حالتها النفسية وهو السحر المصنوع من قمرا؛ بعدها أصبحت شخصية صامتة منطوية على نفسها لحد كبير، وآخر تطور لحالها هو وفاة أخيها ثم أمها وزواجها بعد عناء من سعد ثم رحيل والدها. 
قمرا محبوبة الأب القديمة:
الشخصية المحبة الخائنة التي وقعت بالوفاء ونقض العهد، حيث تزوجت بعد فترة من رحيل شليويح، هو كذلك كان يحبها وتزوج بفهدة عند غيابه وبعد عودته كانت قمرا مطلقة تنتظره ليتزوج منها، فرفض ذلك مع حبه لها لأن لديه زوجة الآن وعائلة يريد الحفاظ عليها.
فعل الرفض أدى لتطور الحالة النفسية للشخصية، حيث انتقلت من حالة الحب الكبير للحقد، الحقد الذي يجعل الإنسان يقتل من أحب انتقامًا ذات حالة نفسية متخبطة للغاية، بين كتمان سر قاتل أخيها لأجل أن تُبقي حبيبها الهارب على قيد الحياة، وبين انتظارها له ليعود، وبين زواجها مرتين ثم في الأخير رفضها حبيبها شليويح عندما عاد؛ ما جعلها شخصية عدوانية؛ تتقلب مشاعرها وتنصب في سبيل الانتقام.

عتبات التصدير:
ليس للحياة وجه واحد، لا يجابهها رجلٌ واحد، لا تحنو عليها أنثى واحدة.. كانت الحياة حياةً – بصورة ما – لأشخاص سبقونا، ثم أصبحت حياتنا موتًا لهم، ثم صار موتنا حياة لآخرين.
الحياة هي الموت في صورة أخرى.
المقتبسة الأولى:
١٩٢١م
“الآن.. هنا”

كلّ من لا قيت يشكو دهرهُ
ليت شعري هذه الدنيا لمن؟! 
المعرّي. 

نعد الليالي والليالي تعدّنا
الأعمار تفنى والليالي بزايد
راشد الخلاوي. 

المقتبسة الأولى، وضعها الكاتب تصديرًا يبين فيه حال الإنسان وما يرتبط به من حياة وموت ومتى ستكون الحياة حياة والموت موتًا.

ثم يشير لتاريخ وهذا التاريخ هو تاريخ القصة التي ستجري أحداثها وهو وقت بدايتها.
ما دفعه لذلك هو علمه بما سيكتب وبمن سيموت قي روايته ويريد التوثيق. هذه الفكرة أن الحياة ليست مجرد الروح.. بل هنالك ما هو أعمق منها فستكون حيًا وأنت ميت، لكن في وقت آخر.
استشهاده بالأبيات يبين حال العائلة وشليويح تحديدًا الذي عاش فترة بعيدًا عن قبيلته يحسب حساب كل هذه الليال المتكررة ويبحث عن أخبار الناس من الضيوف الذين يأتونه صدفة في هذه الصحراء، واستشهد الكاتب ببيت نبطي يدل فيه على بيئة هذه العائلة وعلى العالم الذي ستقع فيه مجريات الرواية بأنها من قلب الصحراء.

المقتبسة الثانية:
“الآن.. هناك”

وما نيل المطالب بالتمني… ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

شوقي.

اكفح بجنحان السعد لا تدرّى
العمر ما ياقاه كثر المداري

الإمام تركي بن عبد الله.

أشار لهناك أنه تقدم في الوقت، الوقت الذي أصبح زين فيه أكبر سنًا.. صار شابًا يقارع الرجال وأصبح يعيش طيش الشباب بكل حالاته.

المقتبسة الثالثة:
“الآن فقط”

وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يُعوِّل في الدنيا على أحدِ

الطغرائي. 

اضرب على الكايد اليا صرت بحلان
وعند الولي وصل الرّشا و انقطاعه

عبيد بن رشيد. 

تشير المقتبسة لنهاية القصة الآن فقط: مجريات الأحداث الأخيرة معرفة نهاية الشخصيات من هو الذي سيبقى وحيدًا؟
من سيعيش بعد كل هذه المعاناة التي وقعت؟
ما حال الإنسان الذي سيصير إليه بعد أن يفعل ما في رأسه؟

الزمكان:

الزمان:
الزمن الطبيعي (كرونولوجي):
إطار الزمان الأولي كان في 1921م حتى بداية الحروب بين ابن رشيد والملك عبد العزيز.

استخدام الزمان كان يأتي على وصف الزمن الحقيقي للشخصية، فالليل يعني الليل والنهار يعني النهار وكان ارتباط الزمن وصفًا لذات اليوم لا يحمل البعد النفسي الكبير المنسلخ من الشخصية فمثلًا: عندما كبر زبن قال الروائي: “ها هي الصفرة تقترب، الشمس تنوي الغياب، النهار متعب وفائض عن الحاجة”. 

ويأتي تارة يصف البعد النفسي للشخصيات الزمن النفسي (سيكولوجي):
“شليويح يهز رأسه طوال الليل، ويمسك بلحيته التي اختلط سوادها ببياضها، عاجته في التعامل مع السهر، ينظر في النجوم وصفائها، تكاد السماء تشرق به يهز رأسه يمنة ويسره”.. سهره الطويل الدائم، عادةٌ يتصف بها من أثقلته الهموم،
تجعله يئن ليلًا، يستقبل ناره، يريد إسكات هذا الصخب الذي بداخله، ولا ننسى أن شليويح قد حدثت عليه الوقعة التي قتل فيها أخا قمرا.. عندما اكتشف أنهما يلتقيان، فكانت الحادثة سببًا في جعل الهموم تلازمه ليلًا ليرافق النجوم ويتأملها.

استخدامه أهم مفارقة زمانية، الاسترجاع (فلاش باك):
كان انكشاف قصة عشق قمرا وشليويح وقتل أخيها، أهم حدث اُسترجع من الماضي، غيّر مجرى الوقائع المستقبلية للقصة، كان سببًا في ابتعاد شليويح عن قبيلته، وبعد عودته؛ اشتدت نيران الذكريات الغاضبة في قلب قمرا وامتلأ قلبها حقدًا كالقطران، جعلها تقوم بكل أفعالها السيئة التي انتهت بها أحداث الرواية.

المكان:
جاء واصفًا طبائع الشخصيات وبيئتها التي تعيش فيها، النجوم في المساء، الشمس في النهار، وصف موسم الأمطار الذي سيأتي ووصف الربيع الذي يجيء بعدها، الخيام وتعدادها والتفصيل فيها فذكر المربع والمثلث والمسوبع، تفاصيل القطع التي تكون بكل خيمة من أطناب وحبال وأعمدة.
المكان بالعموم كان الصحراء بكل تفاصيلها بما تحويه من حيوانات ونباتات، وما فيه من ناس وطبائعهم وأساليبب عيشهم التي تدور حول هذا النطاق الصحراوي البدوي.

نهاية الرواية:
خاتمتها لم تكن تقليدية اعتيادية، تُخالف القارئ وتوقعاته، فقد كسرت النهاية رتابة الخواتم التقليدية المعتادة، فهي نهاية غير سعيدة.

الحقد المتغلغل في نفس قمرا وتكتمها طوال هذه الفترة على شليويح، تضحيتها بأخيها، فلم تبلغ عن قاتله محبة فيه.. لكن الكتمان أدى لكوارث أودت بضحايا لا علاقة لهم، تهرُّب شليويح من مواجهة الواقع، طيش الشباب في رأس زبن
ومطاردته لعشقه وحبه للجازي، كان آمنًا معها لكنه قُتل من قمرا عن طريق حبيبته الجازي دون أن تعلم أنها من أطعمته السم في لقائهم عند القليب؛ وعند اكتشاف الجازي للأمر أصبحت مجنونة بلا عقل، أم زبن التي ماتت بعد أيام من وفاة ابنها، والمسكينة عشبة التي أكلتها نيران هذه الأحداث دون ذنب تزوجت من أحبت، لكنها: “لم تكن عروسًا، كانت جثة تمشي على قدمين.
هذه كانت مأساة المزهاف.

اقتباسات من الرواية:
“هو القرب إذن يا شليويح، للقرب خسائره التي لا تُحتمل وذكرياته التي لا تغيب!”. 
“أطلّت عليه من بعيد، امرأة متلثمة، في الخمسين من عمرها، في جسدها جمال قديم وفي روحها حقد أقدم”.

*كاتب سعودي

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود