283
1306
041
01429
1147
014
050
050
01078
24الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12007
010465
09990
08897
57501
0عبدالله النصر*
– هاني، يله قوووم!
أمي تناديني بقلبٍ متعب، لكن الأهم عندي، ذاك الصوتُ العالقُ في كنف السطح، يشبه صراخ رجالٍ داخل خزان فارغ، وقد عودني أبي ألا أخاف، حتى لو كانت هناك أشباح، أو لصوص.. قلبي الصغير، كان والدي يأخذه دائمًا إلى ظلام القرية، ويسند إليه بعض المهام، حتى عرف كيف يثبتُ في محله.
كل خطوةٍ على الدرجِ الطيني المطلي بالجصِ الأبيض، صوتها مثل صدى تنفس بيتٍ هرِم.. أمسكُ الجدار المصنوع من اللبنات، ومختلف الحجارة الخفيفة، ورائحة النخيل تخترق أنفي، كأني أشمُّ أصالة الزمن العتيق.
أصل إلى السطح، لا أحد هناك، سوى شمس تلوّح لي بكفٍ من نار، والمذياع القديم، موضوع في ركنٍ قصي، تمامًا كما تركته أمي يومًا شجيًا.. حين قالت، وهي تتنهد وترفع طرف ثوبها:
– خله يتشمّس.. سمعت؟
المفاجأة.. المذياع يتكلّم! رجلان يتجادلان في إذاعةٍ ما، صوتهما يخرج من رحم القطع الصدئة التي كأنها تطل من زمنٍ سحري.
أحمله بيدين مذهولتين، ليس لأنّه نطق كما نطقت شفتيَّ بفرحة غامرة، بل لأنه عاد من الموت.
– يمّه.. يمّه.. شُوفي، (الرادو)، اشتغل!
ترفع حاجبيها، وتغمغم:
– ها.! شلون؟
– هذا له عشرين سنة ما يشتغل،
– أبوك خلاه معلق في الحجرة لأنه ذكرى لجدك..
– إيه.. تراه أثري، ويبي له متحف!
في قرارة نفسي الصغيرة، كنتُ أعرف أن هذا الجهاز ليس جمادًا.. لذا في ذات يوم، وفي عمر الثامنة، كنت أتسلّق الزمن إليه، لا الجدار المعلق في زاوية منه.
صعدتُ فوق البراميل، متجاهلًا تحذيرات أمي:
– لا تلمسه.. أبوك يعصب، ويمكن يضربك!
لكني كنت أبحثُ عن خفايا البيت، عن صوتٍ يكلّمني، يؤنستي، يكسر الرتابة، يغير صورة الحياة، ورائحة ما يليها، أبحثُ عن أبٍ لا أعرفه إلا من خلال أشيائه!
فتحتُه، قلبتُه، نقّبتُ في أحشائه كأنه كنز، حاولتُ إيقاظه، أهديته ضربات انعاش، لكنه لم يتنفس.. حتى جاءت صرخة أمي من بعيد:
– هاني، قم أسبح أحسن لك.. عشرين مرة أقول لك، وعاطيني الأذن الصمخه!
وأنا، طفل.. أخذت المذياع معي إلى الحمام، كأنه دمية، كأنه أخي.
أُغَسِّلهُ، أغسل الوقت فيه، أحاوره بالماء، أغمره كأنني أعمّده، ليولد جديدًا.. تدخل أمي، تشهق:
– الله يغربلك، ايش سويت؟!
– أبوك لو شاف الرادو مغسول، بيجن علينا، بيكَسِّر أضلوعنا!
جذبته، جفّفته، كأنها تجفّف الخطيئة، ثم أخفته في لهيب الشمس، حيث يبقى هناك أيامًا، ساكتًا، كما نسكت قبالة أذني أبي.. لكن الآن، ها هو يتكلّم، كأنه يفضح ما خبأه طيلة السنين النائمة.
أخذته إلى أبي، بوجهٍ مختلطٍ بالبشاشةِ والوجل، بيد طفلٍ تود الاعتراف.. فبعينين فيهما الغضب، وفيهما دمعة غارت، نظر إليّ، ثم نتله، وقال بصوتٍ أجش:
– من قال لك تاخذه، هاه.. من قال؟!
أجابت أمي نيابة عني:
– ما استغربت، هالصوت، من وين؟!
صمت أبي.. أنا صامت.. المذياع يواصل البث.. رجلٌ يتحدث عن الموت، عن القرية التي ضاعت، عن طفلٍ حمل صوته في طشت الماء، ليعود من جديد. وفي اللحظة التالية، ينطفئ المذياعُ للأبد.. ابتسم أبي، ثم حزن.. حينئذ صوت آخر يخرج من الجدار:
– هاني.. إياك أن تمس الرادو مرة ثانية.
قالت أمي، التي سمعت ما سمعتُه:
– إنه صوتُ جدك، ذاك الذي لم تسمعه يومًا!
*كاتب من السعودية
التعليقات