320
0289
0436
0543
0303
014
050
050
01078
24الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12007
010465
09990
08897
57501
0عادل النعمي*
مكتب هيفاء لم يكن مجرد غرفة استشارات، بل جناح ملكي فخم... السجاد الحريري بلون العاج يمتص الأصوات، والكراسي الوثيرة بلون الورد الجاف -تحتضن الزائرات- كأنها تقول “هنا لا حاجة للبكاء واقفة”.
على الطاولة الرخامية الصغيرة مزهرية كريستال بها زهور اللافندر والأوركيد الأبيض في ذروة نضجها، كما تحب هيفاء أن تكون النساء: ناضجات لكن مطويات.
على الجدران لوحات فن تجريدي هادئ تهمس بما لا يقال، خطوط سوداء فوق ظلال بيج تشبه مشاعر امرأة فقدت حبها فصممت حزنها بأناقة.
عبير البخور يتسلل من زوايا غير مرئية برائحة عنبر ومسك أبيض، كأن الغرفة نفسها أنثى تتنفس.
خلف المكتب، جلست هيفاء كملكة على عرشها غير المعلن، بفستان رمادي يشبه الغيم، وعطرها لا يفصح عن نفسه، وشعرها مرفوع برقة وحزم.
دفتر ملاحظاتها جلدي بلون خمري، وقلمها اللامع موضوع بدقة، وهاتفها صامت دائمًا.
في هذا المكان لا صوت يعلو فوق صوت المرأة المكسورة وهي تتعلم إغلاق الباب خلفها دون أن تنكسر.
كل شيء محسوب بدقة، من مقبض الباب المخملي إلى ضوء الأباجورة كالهمس. دخلت الزائرات وكأنهن في عيادة شفاء من الحب، لكن الحقيقة أن هذا المسرح هو للخلع الناعم. هنا كانت هيفاء تنتظر ضحيتها القادمة، التي ظنت أنها جاءت لترمم قلبها، لكنها لا تعرف أن يد هيفاء الناعمة تمسك بالخيط الأخير لكل علاقة لتقطعه بابتسامة من حرير.
تتذكر هيفاء كيف كانت زوجة عاشقة… وفي مساء شاحب، يشبه رماد الحرائق القديمة، كانت تظن أنها أخيرًا تنتمي إلى صدر تُسند عليه رأسها دون حذر.
البيت الذي بنته حجرًا حجرًا، صار جلدها الثاني، تتنفسه كما يتنفس العاشق دفء من يحب، كانت ترى زياد: الظل والملجأ، الرجل الذي يملأ الغرفة بثقته، وصوته حين يناديها يُعيد ترتيبها من الداخل.
أحبّته كما تحب الأرض المطر الأول، بتوقٍ لا يُعترف به، وبرغبة في البقاء، وإن لم يُثمر شيء.
وفي تلك الليلة، عاد زياد إلى البيت, نفس وسامته التي تربك النساء، نفس ربطة عنقه المتقنة، ونظراته التي لا تسأل الإذن، جلس، خلع ساعته، ثم قال بهدوء كأنه يروي خبرًا عاديًا من نشرة الغروب:
– “تزوجت.. وأسكنتها معنا في الدور العلوي”.
كلمة “العُلوي” اخترقت قلبها كما يخترق الماء قماشًا مبللًا، لم تصرخ، لم تبكِ، لم تسقط كوب الشاي كما تفعل النساء في الروايات, بل ابتلعت شهقتها كأنها تبتلع نصلًا مبلولًا، وامتزجت دماؤها بقهوةٍ باردة لم تُشرب.
امرأة أخرى… على ذات السقف... تضحك، وربما تركض على البلاط الجديد الذي اختارته هي ذات صباح حب قديم.
امرأة تمشي فوق سقف قلبها.
صعد زياد إلى تلك المرأة، وبقيت هي في الطابق السفلي، حيث لا أحد يسمع أنين الأرواح، لكنها لم تغادر، ولم تلوّح بيد غاضبة، لأنها لم تكن مجرد امرأة جريحة، بل كانت امرأة تعرف ثمن البقاء… وثمن الرحيل.
كانت تحبه، نعم، لكنها كانت تعرف أيضًا أن زياد لا يُعاد تصنيعه، رجل لا يتكرر، غني، ووسيم، وصاحب اسم لا يُنسى على بطاقات الدعوة، والنساء مثلها، إن رحلن عن رجال مثله، فإن القادم إما باهت، أو مُتعب، أو يحمل نظرة اعتذار حتى قبل أن يبدأ الحديث.
فكّرت: “لن أتركه لامرأة تصعد فوقي… وتظن أنها انتصرت”. أمسكت برتقالة، وبدأت تقشّرها بهدوء، كمن يقشّر ذاكرته.
لم ينكسر قلبها تلك الليلة، بل انسحب، انسدل، انسلخ، بهدوء لا يُسمع، كجرح يقرّر ألا ينزف… حتى لا يعطي خصمه نشوة الانتصار.
مرت السنوات وتحولت هيفاء إلى مستشارة. تعلم النساء كيف يدافعن، كيف ينسين، كيف يقطعن الاتصال. لكن العمل لا ينتهي بجلسة، بل يبدأ بعدها.
في الليل، تفتح هاتفها، تزور حسابات نساء سبق أن قابلتهن، تبحث عن علامات التحرر: صورة الزوج الغائبة، جملة “أعيش لنفسي”، تحديث الحالة من “متزوجة” إلى “عزباء”. حين تجدها تبتسم ابتسامة انتقام أنيقة وتدون في دفترها: “تم التحرير. حالة نفسية متوازنة. لا نية للعودة”. لم تعلن حربًا، لكنها تبني جيش نساء خرجن من أوطان كانت سجونا مطلية بالحب.
كل صباح تنتظر ضحية جديدة…
دخلت الآن، الآن الجلسة الخامسة لرُبى… في هذا المكتب تسير بخطا مترددة، كأنها تدخل معبدًا لا يُصلّى فيه أحد... هناك صمت دافئ يشبه صدر أم حنونة –لكنها لا تمنح الحليب- بل التخلي!
كان كعب حذائها البلاستيكي بلون الكريستال اللامع يصدر صوتًا مضطربًا على الأرضية، كأنّه يحاول أن يثبت أناقته في مكانٍ لا يعترف بها.
فستانها الوردي المائل للخوخي، ضيق على صدرها وواسع على خصرها، بدا كأنه من مرحلة عُمرية لا تُشبهها الآن… كأنها اختارت أن تلبس الماضي، لا الحاضر.
شالٌ شفاف من الشيفون ينزلق من كتفها الأيسر باستمرار، وفراشة صغيرة مثبتة في شعرها بأسنان مشبك مكسورة من جهة، بينما لون أحمر شفاهها الفاتح يكاد يذوب على بشرتها… كما تذوب الأحلام الطفولية حين تُسلَّط عليها الحقيقة.
عطرها زهري رخيص، يشبه معطر جوّ منزلي لا يُثبت نفسه، وحقيبتها المتدلية من مرفقها تتخبط وهي تمشي، كأنها تجر خلفها فوضى لم تُرتّبها منذ أن أصبحت “زوجة”.
بأكمام قصيرة في يوم شتوي، وسوار بلاستيكي يهتزّ كلما حرّكت يدها، دخلت رُبى لا كامرأة، بل كأنها “فكرة فتاة” لم تعرف بعد أن الأنوثة تنضج… أو تُدفن.
رفعت هيفاء عينيها نحوها بهدوء ناعم، لم تنهض، بل مدّت يدها وأشارت نحو الكنبة الحريرية بلطف محسوب:
– “اجلسي، خذي نفسًا عميقًا، لا شيء يُلزمك الآن بالانهيار”.
ثم قامت، بخفة مائية، وسارت نحو ماكينة القهوة. حركت السكر برشّة، ثم صبت القهوة بنفسها في فنجان أبيض نحيل تحيطه زخرفة ذهبية، لم تطلب من المساعدة أن تفعل، ولم تُبدِ أي امتعاض من فعلٍ بسيط، بل كأنّ صب القهوة بيدها… هو طقس شخصي تفعله حين تشمّ رائحة الضعف الطريّ.
وضعت الفنجان أمام رُبى، وجلست في هدوء، ساقاها التُفّتا بدقة، كأنّهما لم تُخلّا بتوازنهما يومًا.
في تلك اللحظة، نظرت رُبى إليها كمن ينظر إلى حياة غير مرئية.
فكرت: كم تمنيت أن أكون مثلها.
أن أجلس بفستان رمادي راقٍ، لا يصرخ بالألوان، أن يكون شعري مرفوعًا دون فوضى، أن أطلب الطلاق ولا ينهار شيء من حولي… أن أصنع القهوة لنفسي، لا لغيري، أن أعيش دون مبرر دائم… أن أكون هيفاء…
عادت إلى عالمها الواقعي، وشهقت بصوت مبحوح:
– “أنا لا أريد الطلاق يا دكتورة… رغم كل ما فعله… ما زلت أحبه”.
هيفاء لم تحرك ساكنًا، قلبها غرفة عمليات. قالت ببطء:
– “تحبينه؟ أم تحبين فكرتك عنه؟”.
سكتت رُبى، كأن السؤال سمّ فتح نافذة في رأسها. همست:
– “هو تغيّر لكنه طيب، ربما أهملته”.
ضحكت هيفاء ضحكة صغيرة، كأنها تخفي سكينًا خلف شال شفاف:
– “تدافعين عنه كالطفل الذي يضرب ويعتذر للكرسي”.
أمالت جسدها للأمام وهمست:
– “هل تبقين على لحم فاسد، لأنك تتذكرين طعمه حين كان طازجا؟”.
عضّت رُبى شفتيها تذوق المر، الذي ظنت أنه عسل قديم. سألتها:
– “ماذا لو ندمت بعد الطلاق؟”.
قالت هيفاء بهدوء طقس وثني:
– “الندم على نفسك التي لم تنقذيها، أوجع من ندمك على رجل تجاوزك”. تابعت بنبرة كالماء الراكد: “نحن لا نُترك، بل نُستبدل.. إما امرأة لا يُنسى ظلها، أو ظل يُطفأ النور فلا يُرى”.
غادرت رُبى كأنها خرجت من قوقعة مكسورة.. في الليل جلست هيفاء على أريكتها الجلدية بلون النبيذ أمام شمعة عطرية لا تنطفئ.
فتحت دفترها الجلدي ورأت “رُبى– م التحرير”. فتحت إنستغرام ورأت تحديثًا جديدًا “SheWhoRose” بابتسامة حمراء وفستان جديد، دون تعليق: “البداية لا تأتي من رجل، تبدأ من المرآة”.. كتبت هيفاء: “✔ انفصلت – صناعة امرأة جديدة”.
في الدور العلوي لا يزال زياد يضحك مع زوجته الجديدة، وفي الدور السفلي تصنع هيفاء طابقًا من الشوك تسكنه نساء لم يعدن كما كن.
*كاتب من السعودية
التعليقات