57
0
266
0
79
1
18
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12042
0
11682
0
10918
0
10050
5
8262
0

عبدالعزيز بعجان*
كنت فيما سبق أعبر شارع أبي جعفر المنصور في مدينة الرياض، وإذا بي أسمع تهاتف بعض الفتية فيما بينهم.. يتساءلون عن اسم الشارع ومن هو أبو جعفر، وصحيح أن أعمارهم قد لا تتجاوز الخامسة عشرة، إلا أن الأحرى أن يعلموا من هو. وقد سمعت سابقًا التساؤلات نفسه عن هارون الرشيد، فعجبت أشد العجب! فإذا كان البعض لا يعرف الخليفة الشهير والعلم المنير، فبلا شك لا يعرفون قس بن ساعدة أو دريد بن الصمة. وهؤلاء قد خلَّدت أسماءهم شوارع الرياض في أذهاننا من خلال تنقلاتنا في المدينة، فعزمت على تعريف هؤلاء الأعلام وتقديمهم للعامة. وأعلم أنّه قد سبقني على ذكر الأعلام من هو خير مني وأشد علمًا، وعلى أني سأعتمد في تعريفي على المصادر الأساسية مثل سير أعلام النبلاء للذهبي أو الأعلام الزِّرِكلي أو وفيات الأعيان لابن خَلِّكان، إلا أنني لست هنا لأفصل تفصيلًا علميًا بسيرة الأعلام، إنما أعطي نبذة تعريفية بروح أدبية بما يحضرني من تعريف وأخبار ليكوِّن القارئ داخله ملامح للشخصية، وإني أزعم أن سيجد القارئ فيه ما يستلذ به ويمتعه بالثقافة العربية، كونه جاذبًا ومغايرًا عن الأسلوب العلمي. وقد استلهمت الكتابة من هؤلاء الشباب لكن أود أن أقدمه للكبير والصغير، ولعل حتى العالم الجليل الذي سيجد المادة لا تخلو مما يعرفه، إلا أني أرى أنه سيحتوي على بعض الشوارد التي تجذب الأديب اللبيب. وأبدأ بهارون الرشيد وإن كان حفيد المنصور وأحدث منه تاريخًا، لكن لشهرته ولمحبتي الشديدة له، ولأنه السبب في كتابة سلسلة “من هم” إن شاء لها أن ترى النور، ولحاجة أخرى في نفسي.
هارون الرشيد 149 ه – 193ه:
اسمه هارون ولقبه الرشيد وأبوه محمد ولقبه المهدي وجدُّه أبو جعفر الشهير بالمنصور، خامس الخلفاء العباسيين وأشهرهم. نشأ في بيت خلافة في بغداد فأبوه كان الخليفة، ولقب بالرشيد بعد حملته الكبرى على الروم سنة 165هـ/782م، إذ بلغ تخوم البوسفور فأبلى بلاءً حسنًا فصالحته الملكة ايرني وافتدت منه مملكتها بسبعين ألف دينار في كل عام، فلما عاد منتصرًا لقبه أبوه بالرشيد. وفي سنة 170 هـ حينما كان في عمر الإحدى وعشرين سنة بويع بالخلافة بعد أخيه، فقام بأعباء الدولة وازدهرت أشد الازدهار اتسعت، فكان يحج سنة ويغزو سنة. قال ابن دحية: “وفي أيامه كملت الخلافة بكرمه وعدله وتواضعه وزيارته العلماء في ديارهم”. وكانت بينه وبين ملك الفرنجة الشهير شارلمان صلة ومودة فكانا يتهاديان التحف (الزِّرِكلي)، ولعل أشهرها الفيل “أبو العباس” وقد ذكره الكاتب الفرنسي إينهارد في كتابه “حياة شارلمان” Vita Karoli Magni وقد أسماه “أبول أباز”. وكان الرشيد من أعلم الناس في اللغة والأدب والشعر وأخبار العرب والحديث والفقه، فاجتمع عليه وجهاء الناس وعلماؤهم وأدباؤهم وشعراؤهم وكُتّابهم.. وله أخبار كثيرة تستدل بها على طبعه الكريم وأخلاقه النبيلة وصدقه مع ذاته، وأحب أن أسوق لك بعض أخباره وقصصه؛ لأنها تظهر لنا ملامح شخصيته وصفاته وشمائله.
في يومٍ ما كان الخليفة في مجلسه، وكما ذكرنا آنفًا أن مجلسه يعمر بالأدباء والمثقفين، وكان يملك خاتمًا ثمينًا في قيمته أثيرًا في نفسه، وكان الخاتم بقيمة ألفٍ وستمئة دينار، فنظر يومًا إلى مجلسه وقال: من يقل لي أحسن ما قالته العرب في الذئب وله خاتمي هذا؟ وأنتم تعلمون أن العرب لم تترك شاردة ولا واردة إلا ذكرتها في الشعر، بل عنترة ابتدأ معلقته بقوله: هل غادر الشعراء من متردم، وهو بعد عصره قد أتانا أكثر من ألف وخمس مئة سنة، فكم من شاعر ذكر الذئب وقال فيه أبياتًا، فمن المستحيل أن توافق ما في نفس هارون، نعود للقصة.. فقال المفضل الضبي وكان رجل أدب:
يَنامُ بإِحدى مُقلَتيهِ وَيتّقي .. بأُخرى الأَعادي فَهوَ يَقظانُ هاجِعُ
فقال هارون: لأمر ما ألقى الله في صدرك هذا البيت، فانتزع خاتمه وأعطاه المفضل. وكانت زبيدة زوج هارون من أجلّ النساء وأعلمهن وأوفاهم ولها محاسن كثيرة، وتعلم مقدار هذا الخاتم في نفس هارون، فأرسلت إلى المفضل الضبي أن تبيعني الخاتم بألف وستة مئة دينار فباعها إيّاه وعادت لهارون وأعطته إيّاه.. فلما كان اليوم الثاني واستتب مجلس هارون الرشيد واجتمع عليه الأدباء، نظر فإذا المفضل جالس فنزع خاتمه مرة أخرى وأعطاه للمفضل وقال: خذ الخاتم والدنانير، فنحن قوم لا نعود فيما نهب.
ومشهد آخر في موضع آخر، حينما بنى قصره الشهيق قصر الخُلد، وكان قصرًا عظيمًا مهيبًا لم يعرف قصر قط مثله، وفي يوم افتتاح القصر اجتمع الناس فأتى الشعراء والأدباء والوجهاء وأعيان الدولة، ومن جملة الشعراء الذين أتوا كان أبو العتاهية وكان الطعام حاضرًا وقد زخرف مجالسه وزينها وهارون فرح به.
فقال أبو العتاهية: عش ما بدالك سالمًا .. في ظل شاهقة القصور
فقال هارون: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال أبو العتاهية:
يسعى إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكور
فقال هارون: حسنٌ، ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تقعقعت .. في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا .. ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقام الناس بتوبيخ أبي العتاهية وقالوا: دعاك أمير المؤمنين لتسره فغممته وأبكيته
فقال هارون: دعوه فإنه رآنا في غفلة فأحب أن يذكرنا.
ولا يجب أن نتجاوز قصته مع ملك الروم نقفور، إذ يظهر لنا جانب حزمه وشجاعته، فقد علمتم أن الملكة أيريني كانت تدفع الجزية بعدما غزاهم واستسلموا له، فقد صار انقلابًا بعد ذلك في مملكة الروم على أيريني وتُوِّج الملك الجديد نقفور، فسرعان ما نقض العهد بدفع الجزية وأرسل إلى هارون الرشيد برسالة يقول فيها:
“من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها لها، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصلت قبل من أموالها وافتد نفسك بما يقع به المصدرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك”.
يصف الطبري مشهد الرشيد والمجلس حينما قرأ الرسالة ويقول: “فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن لأحد أن ينظر إليه، وتفرق جلساؤه خوفاً من زيادة قول أو فعل يكون منهم، واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه”.
ثم دعا هارون الرشيد بدواة وكتب:
“بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام”. (الطبري)
فذهب من يومه إلى الروم وسار حتى أناخ بباب مدينة هرَقْلة ففتحها وكسر جيش الروم وجعل يحرق ويخرب البلاد، حتى طلب نقفور الصلح على أن يؤدي الجزية في كل عام كما كانت، فلما عاد الرشيد منتصرًا ومن معه نقض العهد نقفور مرة أخرى، وكان البرد شديدًا فيئس نقفور من عودة هارون إليه، ولم يخبر أحدًا هارون بذلك إشفاقًا عليه وعلى أنفسهم من أن يعودوا في مثل ذلك الطقس للحرب.. لكن احتال شاعر من الجند وأنشد:
نقض الذي أعطيته نقفور .. وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه .. غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى .. بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة .. تشفي النفوس مكانها مذكور
وأكمل أبياته وتناشد الناس حتى علم هارون بنقض نقفور للعهد وقال: أوقد فعل نقفور ذلك؟ فعلم أن وزراءه قد احتالوا في ذلك فكَرَّ راجعًا في أشد محنة وأغلظ كلفة حتى أناخ بفنائه فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد وبقيت الجزية تحمل إليه مدى حياته. (الطبري)
توفي هارون وهو في طريقه للغزو بأثر مرض حل به، فقد خرج من بغداد سنة 192 هـ متوجهًا إلى خراسان لقمع تمرد رافع بن الليث في سمرقند، وسلك طريق الري ثم نزل بطوس، فأصابه المرض في طوس واشتد به المرض حتى مات بها سنة 193 هـ، وقد فعل ذلك كله وعمره لم يتجاوز ثلاثًا وأربعين سنة، رحمه الله رحمة واسعة.
هكذا أقرأ الأعلام في لافتات الطريق وأطوي من شوارع الرياض صفحةً بعد صفحة، أقرؤها لنفسي وأُطلعكم عليها، وأستزيد كلما صادفتُ اسمًا جديدًا، فأنهال بالبحث والقراءة عنه، فقد أصبحت شوارع الرياض موسوعة مفتوحة لرجال التاريخ وسير الأعلام.
*كاتب سعودي
التعليقات