مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

 د. هاني الغيتاوي*   الأب هو الرمز الأول، وهو الأساس المكين الذي تنبني عليه …

السلطة الأبوية.. وتأثيرها على الفلاسفة والأدباء والمبدعين (6/1)

منذ يومين

12

0

 د. هاني الغيتاوي*

 

الأب هو الرمز الأول، وهو الأساس المكين الذي تنبني عليه هُوية الأبناء، ومن خلاله يشعرون بالوجود؛ لأن الأب وتشاركه الأم هما صاحبا التأثير الأكبر على تنشئة الأبناء وسلوكياتهما من حيث النمو النفسي والاجتماعي والمعرفي والبيولوجي، وإن كان – في الغالب الأعم – يكون تأثير الأب أشد في بناء شخصية الأبناء.

ويعتبر الأب هو الرمز المقدس الذي تنظر إليه النفوس الوليدة التي تخطو الخطوات الأولى في الحياة، فهو القوة التي تحتمي بها من تقلبات الحياة وصروفها وهو شجرة الحنان الوارفة التي يتفيؤون ظلالها من قيظ الحياة ورمضائها، هو الجبل الصامد الذي تتفتت على صخوره كل مشاكل الحياة التي تعترض طريقها؛ هكذا تكون النظرة للأب فهو القدرة الخارقة بالنسبة لأولاده، وهو محط آمالهم، وهو الذي يستطيع مجابهة الصعاب من أجلهم، والذود عنهم في هذه الحياة، هو حصنهم الآمن وملاذهم الأول والأخير.

تظل هذه الصورة للأب في قلوب أبنائه، وتستمر في النمو حال استمراره في صفاته التي أهلته ليكون هذا الرمز، يرونها بحبهم وبرهم وامتنانهم في الكبر، وتظل الصورة عالقة في وجدانهم حتى بعد مفارقة الأب الحياة، فيدينون له بالولاء والطاعة والعرفان بالجميل، وفي المقابل تخفت الصورة وتذبل أوراقها إذا حاد الأب عن صفاته ومروقه عن الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه، بأن يفقد رمزيته وتتفتت على سلبيته ونزقه في تعامله مع أبنائه، وبسط نفوذه عليهم، ومعاملتهم معاملة قاسية من خلال ممارسة السلطة الأبوية بكل ما تحمله من ظلم واستبداد.

وإيجابية الأب تعني نأيه عن استخدام السلطة الأبوية الغاشمة، واستخدام الصورة المفترضة للأب كونه المحب والعطوف والملاذ الآمن وخط الدفاع الأول والأخير لأبنائه، وهذا هو الأصل؛ الذي حال استخدامه الاستخدام الإيجابي ينشأ الأبناء نشأة سليمة ويحملون في نفوسهم الود والتقدير لهذا الأب الذي ساعدهم في الخطوات الأولى في دروب الحياة، واجتياز هذه الدروب بالعطف والحنان وتقديم المساعدة، ومن الأدباء الذين حملوا الود لأبائهم تقديرًا وعرفانًا الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي كتب قصيدة رثاء في والده بعد وفاته، تحدث درويش إلى والده وذكر الأماكن التي كان يرتادها، ووصف أباه بأنه “خجول” وانتقده انتقادًا رقيقًا يعاتبه فيه على أنه لم يشجعه على النضال والتضحية، وأنه انشغل عنه بحقول السمسم والذرة “لم لم تحاول أن تربيني كما ربيت حقلك سمسمًا، ذرة، وحنطة”.

وفي مجموعته الشعرية “لماذا تركت الحصان وحيدًا” سلط درويش الضوء على أبيه، وجعله يحتل مساحة كبيرة من ديوانه، وجسّدَ صورة أبيه فكان رمزًا للحكمة والعدل، وحفل الديوان بالحوارات الماتعة والمستفيضة بين درويش وأبيه.

ومن درويش إلى الروائي التركي “أورهان باموك” الذي احتفى بأبيه مسخرًا كلمات خطابه الذي ألقاه على الحضور في حفل توزيع جوائز نوبل، حيث عقب حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام ألفين وستة، راح يمدح في أبيه، وخصص مساحة الخطاب للحديث عنه ومدى تأثره به، وتأثيره على حياته وعلى مسيرته الأدبية، قال باموك وقتذاك في خطابه: “ذات يوم أهداني والدي حقيبة صغيرة تتوسطها مجموعة ثمينة من الكتب والمذكرات الخاصة به التي لم ير نورها، وبسخرية شفافة غير جارحة قال لي: “أريدك أن تقرأها بهدوء يا ولدي”.

لقد ظهر تأثير الأب الإيجابي على “باموك” فنشأ تنشئة سليمة من حيث النمو النفسي والمعرفي، وظهر تأثير الأب على تشكيل نسق الابن الثقافي، فهو من أخذ بيده ودله على طريق المعرفة، وكما كانت علاقة باموك مع أبيه، كانت علاقة الفيلسوف الإنجليزي “جون ستيوارت ميل” مع أبيه، فكان ستيوارت ابنًا للسيد “جيمس ميل” الذي كان يعمل مديرًا للشركة الهندسية الشرقية، فضلًا على أنه كان صحفيًا ومترجمًا، جمعته علاقة وطيدة بالفيلسوف الإنجليزي “جيرمي بنثام” الفيلسوف والمصلح القانوني والاجتماعي وأحد فلاسفة عصر التنوير ومؤسس مذهب النفعية ومن أشد المدافعين عن الحرية والمساواة في الحقوق؛ وكان الفيلسوف بنثام عبقريًا وعرف عنه النبوغ المبكر، فأجاد عدة لغات في سن صغيرة وأطلق عليه لقب فيلسوف في هذه السن تحديدًا في الخامسة من عمره، وقد افتتن والد ستيوارت ميل بهذا الفيلسوف، وأراد لابنه أن يصير مثله، وقد تحقق له ما أراد، فالابن ستيوارت أجاد اللاتينية والانجليزية والفرنسية في سن الثالثة من عمره وقد أطلق عليه أبوه لقب فيلسوف أسوة بالفيلسوف بنثام، ولحرص الأب على ابنه ترك أعماله وتفرغ لمصاحبة الفيلسوف بنثام، وعمل مساعدًا له، وكان يحرص على أن يرى ابنه مثله، فكان يتناقش مع ابنه في أفكار أكبر من سنه، فناقش معه كتاب “التأملات” لديكارت، وساعده في ولوج طريق البحث والمعرفة، فقرأ ستيوارت الأدب اليوناني وحفظ معظمه في سن الحادية عشرة، وتفرغ بعدها لقراءة أعمال “أرسطو” وقرأ كتاب “ألف ليلة وليلة” وكان مصدر إلهام له، فكان من الكتب التي خصبت خياله وكان نافذة للتأمل لديه.

وظهر حرص الأب على ابنه جليًا من خلال وصيته للفيلسوف “بنثام” بأن يتعهد ابنه ستيوارت ويرعاه،  فيكتب إليه يقول: “ما من خاطر يفزعني ويحمل الضيق إلى نفسي كما يفزعني ويضايقني خاطر الموت، فأرى أن أفارق الحياة وعقل الصغير لم يتكون بعد، فإن رحبت مسرورًا برعايتك له وتربيته؛ فلأنه وريثنا الخليق بكل منا”.

فيستجيب بنثام، ويتعهد بكفالته ورعايته، ويتشرّب ستيوارت فلسفة بنثام، ويقتفي أثره في تبني الفلسفة النفعية، بل يتعمق فيها ويزيد عليها، ويضيف إليها بعدًا أخلاقيًا، ويؤكد على أن الحرية هي النبع الصافي للوجود الإنساني، وربط حرية الفرد بمصلحة المجتمع.

كان لوالد جون ستيوارت التأثير الكبير عليه من حيث نشأته السليمة وولوجه طريق المعرفة، فقد استغنى عن عمله وكرّس نفسه لخدمة ابنه من خلال تفرغه لمساعدة الفيلسوف بنثام، وغايته من ذلك هو تمهيد طريق العلم والمعرفة لابنه، فقد أراد له أن يكون فيلسوفًا، وقد تحقق له ما أراد، وكان الأب دائمًا يرى الصورة التي ينبغي أن يكون عليها ابنه، وهي صورة الفيلسوف والمفكر المناضل.

*كاتب مصري

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود