الأكثر مشاهدة

محمد الحميدي* ‏ لكل عمل أدبي قوانين وقواعد تحكمه لا يمكن للمتمكنين في مجال كالشع …

‏”منجم الفحم” والمزاوجة بين الأجناس الأدبية

منذ سنتين

598

0

محمد الحميدي*

‏ لكل عمل أدبي قوانين وقواعد تحكمه لا يمكن للمتمكنين في مجال كالشعر الخروج إلى مجال آخر كالمسرح من حيث المقاربة، وإن كانت هذه القوانين متعارفة ومتداولة، أكثر منها مكتوبة ومتَّبعة، ولهذا كانت عملية المزاوجة بين الشعر والنثر، أو بين السيرة والشعر، أو بين القصة والتاريخ؛ أمراً مألوفاً وفي غاية القبول من المتلقي.
‏ “منجم الفحم.. وقصص أخرى” للكاتب أيمن الشماسي يحاكي هذه التجربة، إذ ينطلق من لغة شعرية عالية الكثافة؛ ليقارب فن القصة القصيرة، فيستمد من الشعر الآفاق التي يفتحها، حيث لا يكتفي باللغة، وإنما يشرك الشعر بشكل مباشر وتلقائي، فكأنه يضع المتلقي أمام لوحة سوريالية مرسومة بعناية، لنوعين من أنواع الكتابة: القص والشعر.
‏ فالحكاية -هنا – لا تنتهي حيث تمت إضافة العديد من الصور التوثيقية، وإسقاطها على القصص، واحدة تلو أخرى.
وهكذا أصبح المتلقي أمام ثلاثة أشكال: شكل فني، شكلين أدبيين: “القص” كقاعدة تأسيسية للكتابة استمد العنوان والجنس، و”الشعر” بما أنه شريك للنثر القصصي، ومساعد على الارتقاء بمستواه من ناحية التكثيف، و”التصوير الفوتوغرافي التوثيقي” باعتباره أحد الفنون الجميلة.
‏ هذا التمازج يطرح سؤالاً إشكاليًّا في غاية الأهمية، يتعلق بجنس الكتاب المولود؛ فإلى أي لون أدبي أو فني ينتمي؟ فالتمازج يسكن منطقة وسطى تقع بين الأجناس، وتقترب منها، فتتشكل عبر الأخذ من هذا وذاك، وهو ما يجعل مسألة “الهُوية” عائمة، ومتأرجحة، ولا يستطيع المتلقي إطلاق حكم نهائي تجاهها.
‏ بدراسة أحداث القصص، يمكن مشاهدة المفارقة بين الكتابة والحدث، فالكتابة بالفصحى العالية، البعيدة تماماً عن الإسفاف اللفظي والمعنوي، مضافا إليها الشعر؛ كمساعد على إيصال اللغة العالية إلى المتلقي، وبين الأحداث الجارية في موقع بعيد عن عالم العرب، حيث الأسماء والأحداث، والتصورات كلها آتية من الخارج، الغرب تحديدا.
‏ إشكالية “التجنيس”، أو تحديد الهوية؛ لم تقتصر على اللغة، وإنما امتدت إلى الأحداث، فالمتلقي يجد نفسه أمام تشكيلة واسعة من الأفكار والرؤى، القادمة من الغرب، والمتصلة به عضويًّا، بينما كتابتها تمت بلسان اللغة العربية، المختلفة تمام الاختلاف عن لسان المتحدِّثين، وهذا الأمر ربما سبب إرباكاً أثناء الاستقبال، وأوجد نوعا من التساؤل المشروع حول هوية النص.
‏ لا تتوقف الإشكالية هنا، بل تستمر إلى نوع العمل الكتابي؛ حيث الإشارة في العنوان إلى “قصص أخرى”، بينما في الداخل جميع القصص متصلة بعضها ببعض، والحكاية المؤسِّسة هي حكاية (منجم الفحم)، أما البقية، فقصص شارحة ومساعدة للقصة الرئيسة على إكمال المعنى، والوصول إلى تشكيل وعي كامل لدى المتلقي.
‏ الإشكاليات السابقة، وإن طُرحت على طاولة النقاش أثناء مقاربة العمل، إلا أنها ليست الهدف من الكتابة، واستمرارية الحديث والنقاش حولها لن يفضي إلى نتيجة، لسبب بسيط؛ يتمثل في أن هذا العمل لا يحتفي بالأحداث والأشخاص، ولا يحتفي بالمعنى والدلالة، وإن كانت لها أهميتها وحضورها.
‏ بل يحتفي باللغة واللغة فقط؛ حيث يقاربها كعاشق، ويمارسها كمحب واله غارق في أعماقها، لا يدّخر جهداً لإظهار براعتها، وسهولة تطويعها للعصر الحالي، مثلما ظلت مطواعة للعصور السالفة، هذا الاحتفاء؛ هو القصد والغاية من الكتابة، أما بقية الأمور، فتتراجع إلى الوراء، ولا تنال نصيباً من الأهمية إزاءها.
‏ وأصدق وصف يمكن أن يُسقط على الرواية الشعرية، أو مجموعة القصص الممتزجة بالفن والشعر؛ يتمثل في أنها تجربة فريدة، حاولت مقاربة الفن من زاوية اللغة، مبتعدة عن العناصر الفنية، أو الأنواع الأجناسية الكتابية، فظل الهم منحصراً بداخل المفردة والتركيب، اللذين يحتلان الأهمية القصوى- كما يراها الكاتب- وكما ينتظرها المتلقي.

 

*ناقد سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود