مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

يوسف الشيخي* في هويتها يتيمة، وفي حياة الذل والهوان مقيمة، بحثت في رحلتها عن اهت …

اليتيمة

منذ 9 أشهر

326

0

يوسف الشيخي*

في هويتها يتيمة، وفي حياة الذل والهوان مقيمة، بحثت في رحلتها عن اهتمام، فلم يُفِرِد لها الزمان غير صفحةٍ خاليةٍ من الحنان، وهناك في خانة العنوان (يتيمة)، وسطرٌ واحدٌ فحواه: حياتها عديمة.
ولأنها افتقدت أي معنى للسَّعادة؛ لم تجد سوى بيع الورد عادة؛ لتنشر ما اشتهت شمه من أنفاس الحب، وتكون الرسول بين قلبٍ وقلب؛ كأنها أرادت أن تقول: لا تحزن يا قلب ولا تنكسر، سحابة البؤس يومًا ما ستنحسر.
تخطَّت من عمرها الخمس، وظلَّت كل يوم تحلم أن الدنيا تحادثها في همس، وتخبرها أن الظلال ستنقشع، وأن الغد سيكون خيرًا من الأمس.
وفي ليلة عيد، خرجت تحمل من الورد المزيد؛ تريد – كالعادة – أن تنشر السعادة، فالناس تطلبه؛ لتهديه الحبيب، مغلَّفًا بالتهاني، والدعوات بالعمر المديد، واختارت هذه المرة – كارهةً – أن تقف أمام محل الشوكلاتات؛ فالزبائن كُثُر، وقلَّ أن تحظى بالتفات.
وقفت وراحت تنادي في جرأةٍ وثبات ما أتقنته من عبارات: اقترب أيها المُحب، اقترب وقل هات؛ فالورد رمز الحب، وهو معشوق البنات، تنادي ثم فجأة تقلع عن تلك النداءات، وتغفل عما في يدها من وردات؛ لتختلس نظرة اشتهاء إلى تلك القطع الآسرات، المغلفة على شكل كرات، أو الممزوجة بألذ أنواع المكسرات، ثم تفيق من التشهي والشرود إلى التغني بأهزوجتها وبيع الورود.
وبعد حين، وإذ بصاحب الدكان يقف أمامها عابس الوجه، مقطَّب الجبين، قائلًا بصوته الأجش: إني أناديك منذ حين، ألا تسمعين؟!
أم أنك أيتها الحمقاء تتجاهلين؟! 
هلَّا ترحلين، هيا ابتعدي عن هذا المكان قدر ما تستطيعين.
رفعت رأسها إليه وفي العينين نظرة توسل واستشفاق، ثم مدت له بوردة كمن يأمل في ضمة وعناق، لكنها صادفت قلبًا خاويًا من أدنى درجات الرفق والإشفاق، فانتزع ما في يدها من ورد، احمرّ وجهه من الغضب، وأرعد وأزبد، وراح يدوس الورد بالقدم، وحتى يزيد في الألم، دفع الجسم النحيل الذي أعياه السقم، ثم أقفل راجعًا إلى دكانه دونما ندم.
تجمع الناس حول أمرٍ ما، يا للهول إنه هيكل اليتيمة غارقًا في بركةٍ من الدماء، دُفِعت فاصطك وجهها بأحد الأعمدة، وخرَّت المسكينة جثةً هامدة.
اقتربت سيدةٌ وانحنت على الأرض؛ تلقي نظرةً على الفتاة، وتتحسس بيدها النبض، ثمَّ نهضت تعلن الخبر، والدمع هاطلٌ كالمطر، ماتت الفتاة، وما من نبضٍ ينبئ عن حياة.
وبدأ التساؤل: ابنة من؟
أليس لها أم؟
أليس لها إخوةٌ أو أب؟
يا للعجب! يا للعجب!
ليست سوى يتيمة، كل قصتها أن حياتها عديمة، وفي نهاية المطاف، ماتت على الضفاف، لأنها باعت الورد، واشتهت بعضًا من الشوكلاتات الخفاف.

*كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود