96
042
042
089
053
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11815
04747
04703
04495
04409
17يركز الشاعر صالح لبريني في ديوانه الجديد “أدغال تقفز بداخلي”، الصادر عن دار خطوط وظلال بعمان الأردنية عام 2023، على هويته الثقافية المنفصلة عن هوية الآخرين الذين هم في صفه ويمارسون الأدب بكل أشكاله وأجناسه؛ حيث يحتكر لنفسه هذه الهوية الثقافية الخاصة به، يستمدها من أصوله وانتمائه إلى منطقة تتميز بثقافة موغلة في القيم المغربية الأصيلة. إنه يركز على بناء قصيدته الشعرية وفق هذه الهوية والوعي الذاتي بالأشياء والعالم الذي يتحرك فيه بحرية وفهم عميق للوقائع والأحداث الحاصلة فيه.
تسير قصيدة صالح لبريني في موازاة مع قناعاته الفكرية والثقافية، وفي علاقة بمواقفه الشخصية من القضايا الاجتماعية المغربية والعربية والإنسانية؛ حيث يوسع نطاق لغته الشعرية وتقويتها للتعبير عن هويته الثقافية والفكرية. كأننا به شاعر ناقد ذو طابع شعري إبداعي، يثبت قصيدته المنفتحة على التجديد اللغوي والإبداعي يختزله في أفكار متقدمة تتجاوز الفكر البسيط والمباشر. وفي هذا الإطار يعبر الشاعر عن طابعه الشعري بلغة متعددة الصور والرموز والإيحاءات؛ حيث يتخذ بعدًا فكريًا غير تقليدي ولا يتماهى مع الموجة الجديدة من الشعراء المغاربة الذين يستسهلون الشعر بشكل أو بآخر.
نتوقف عند شعر صالح لبريني ليلفنا شعور جميل وقراءة ممتعة تلتهم القصيدة تلو الأخرى، بطريقة تلقي بظلالها على أجزائها وسطورها المبنية بشكل عمودي يستدعي التكرار اللغوي واللفظي والمعنوي لرفع مستوى الدلالة وقدرتها على توصيل الفكرة المعبرة عن هوية الشاعر. فالتكرار في قصائد الديوان يؤكد مسألة غاية في الأهمية، وهي أن الشاعر يهدف من خلالها إلى تشكيل المعنى الخاص بكل مفردة يكررها، بل يعيد تشكيل دلالتها العميقة داخل النص وفي ارتباطها الدلالي والتركيبي ببقية المفردات الأخرى في النص نفسه، أو في بقية نصوص الديوان. يقول الشاعر في قصيدة “جِبالٌ بِكاملِ عُزْلتِها”:
في سَاحةِ المَدينَةِ
رأَيْتك يا ظِلِّي
تقِفُ قرْبَ الرّصِيفِ
تُسَدّدُ رَصاصةَ تحِيّةٍ
وأَبْتسمُ في وجْهكَ
أنَا التّائِهُ
أَشُقُّ الطرِيقَ المُفْضِيَ إلى المقْبرَةِ
تتْبعُنِي حُشودٌ منَ الأشْجارِ
كتَائِبُ منَ العصَافيرِ الهارِبَةِ منْ لعْلعَةِ الحرْبِ. (ص. 12).
يحمّل الشاعر قصيدته شحنات جمالية ولغوية بلاغية تعبّر عن درجات تعبيرية وإبداعية لها خصوصيات مرتبطة بصور أسلوبي، يلتزم بها بشكل خاص في أغلب قصائد الديوان، حيث يستدعي الشاعر من خلالها سرد تفاصيل الأحداث المعيشية والرؤى الخاصة به إليها ونظرته الثقافية تجاهها. فالأفكار التي تنقلها كل قصيدة في الديوان لا يمكن أن تصل إلى المتلقي إلا من خلال صور جمالية متعددة، لها طاقة لغوية تعتمد على رموز متنوعة ترتقي بالقصيدة إلى مستوى الإبداعية. يقول الشاعر في قصيدة “أدْغالٌ تقْفزُ بدَاخلِي”:
في الغَابةِ
أرَى الشّرُوقَ ينْسلُّ منْ قُضْبانِ الّجرِ
ولا أرَى غُروبًا في الأفُقِ
في الغاَبةِ
حشْدٌ منَ الخَيالِ
في
انْتظارِ
البَياضِ
وخَمِيسُ أفْكارٍ يخْرُجُ منْ أنفَاسِ الشّجَرِ
في
اتّجَاهِ
المدَى
البعِيدِ
لغزْوِ أرْضِ الكِتابَةِ
ونَمْلٌ يتَسلَّقُ قَلَقَ الأصَابِعِ
كثِيرٌ منَ الصّمْتِ
وقِلّةٌ تدْركُ مهابَةَ العُزْلةِ. (ص. 62- 63).
يحاول لبريني أن يجعل من شعره وسيلة تواصل مع المتلقي ومع العالم، وإدهاش الجميع ومفاجأته بقصائد فارقة لها من الخيال النصيب الأكبر، ومن التعبير عن الذات ذات النصيب؛ فهو شاعر وناقد له حضوره في زمان الكتابة، كتابة الذات والآخر، كتابة العالم والهوية المقترنة بعزلة غير واضحة المعالم، كتابة التفاخر والاعتداد بشاعريته وإبداعيته البارزة للقارئ دونما حاجة إلى وسيط. فالشعر، ككتابة عند صالح لبريني، مفتاح للخروج من عالم الغموض والظلام متحللًا من القيود وشروط القبيلة التي ينتمي إليها، والقرية التي يبارك فيها وجوده الآدمي وحضوره الذاتي، وحتى شروط القرويين الذين يعتقدون في أعراف وتقاليد ترتهن إلى أزمنة محددة.
فعشقه للقرية وأهلها، واستيعابه كمثقف لدلالات الحياة فيها وإيقاعات عيش أهلها وسلطتهم المعنوية، وإدراكهم للحياة الصعبة وتكاليفها وقدرتهم الرهيبة على تحملها، جعله يحتفل في قصيدة “قرَويّونَ” بكل هذه الأشياء ويتغنى بالقرويين بطريقة جميلة. إن القرية عند الشاعر بمثابة الأصل، الذي يرتبط أساسًا في العرف الثقافي لأهلها وحتى لمن غادرها إلى المدينة، بالمنبع الثرّ والغني بالفكرة والمعرفة واللغة القوية الخشنة المثيرة للجدل؛ يقول:
قرَوِيّونَ
في ضُلوعِهمْ تَضْحكُ الأرْضُ
ترْقُصُ الشّمْسُ علَى خُدودٍهمْ
تفْرحُ المَناجِلُ في أيْديهِمْ
وفي خُطاهُمْ يلْتمِسُونَ ضَوْءَ الحصَى
ووَهجَ الرُّبَى.
…
قرَوِيّونَ
يعْشقُونَ البَدْرَ في اكْتمَالهِ
الدّرْبَ في أنْ يُعيدَ الخُطَى إلى أوّلِها
النّارَ في أنْ تُضيءَ البَوْحَ إلَى آخِرهِ
ويُعلّقُونَ جلابِيبهُمْ علَى الجُدْرانِ
كيْ يُعدُّوا للمَساءِ سرْدهُ المُؤَجّلْ. (5- 6).
يكتب لبريني القصيدة الشعرية لتجاوز الشكل والرؤية التقزيمية للشعر، مؤمنًا في الوقت نفسه بقدرة هذه القصيدة على عدم تجاوز التفاصيل الدقيقة والصغيرة المعبَّر عنها؛ لكن بشكل خيالي ورمزي وبلغة مختلفة عن اللغة العادية التي تلبي أفق انتظار متلقيه؛ كأننا به يبحث عن دهشة مفتقدة في الواقع والعالم/ وفي نظرة الناس إلى الحياة ومتعتها. إنه شاعر مندفع بلغته الشعرية وبجمالية الكتابة الأدبية التي ينهلها من الواقع والحياة والتجربة في مسقط رأسه (قرية بْزُو بنواحي بني ملال)، التي أضافت إلى ثقافته الأدبية الكثير من المفردات والأشكال اللغوية والتعبيرية المؤسسة للنص الشعري عنده.
يمارس الشاعر في نصه مهمة جمالية خاصة مستخدمًا لغة محملة بالرمزية والإيحائية تقدم خدمة للمتلقي ليصل إلى المعنى، وتحقيق الدلالة في عمق النص الشعري، تضيف صورة جمالية تربط متعة القراءة بالمعنى العميق لكل نص شعري على حدة. وينمو الحس الإبداعي في شعر لبريني ويتصاعد مداه في سماء الإتقان في كل قصيدة في ديوانه “أدغال تقفز بداخلي”، حيث ترتفع حدة اللغة الشعرية فيه وهي تراكم الأنساق والمحمولات الثقافية؛ من أجل خدمة جماليتها ورمزيتها القوية.
لقد اتسعت القصيدة لفتح الحدود الفكرية والثقافية للشاعر، وتقريب المسافة بينه وبين المتلقي؛ لتحقيق أهداف الشاعر وغايته الكبرى، وهي توجيه وعي المتلقي والتأثير فيه بالقدر الذي يريده. من هنا تتجلى قدرة الشاعر الإبداعية على تشكيل النص وفق منظور إبداعي يتخلص فيه من عوائق التقليد وتكرار التجربة السابقة، مستغلًّا في ذلك ثقافته وتجربته النقدية المتميزة؛ حيث يقول في قصيدة “في الرّحيلِ”:
في الرَّحِيلِ
قمرٌ واحدٌ يعْرفُنِي
تعْرفُنِي سماءٌ واحِدةٌ
تعْرفُنِي مسَالِكُ الدّيارْ.
في الرَّحِيلِ
نحْملُ صَوْتَ الخَريرِ
هَدِيلَ اليمَامِ
زَعيقَ القِطارِ
وغرْبةَ المَلامِحْ. (ص. 100- 101).
يقوي الشاعر في ديوانه الباعث القيمي في المجتمع؛ ليكمل الفعل الثقافي والإنساني وليُوجد في الشعر لدى المتلقي قابلية القراءة والتأويل لما يقرأه من نصوص شعرية مبدعة؛ حيث يحقق فضاءً للرؤية والرؤيا والوعي بالأشياء وإدراك العالم. كما يلجأ لبريني إلى المعطى الواقعي عبر استحضار الديار في القرية وأحوال أهلها وتفاصيل حياتهم؛ من أجل تقويمها وتحليلها ومحاولة إدراك كنهها وجوهرها لتوضيحها للمتلقي بشكل جمالي.
يفتح لبريني هامشًا كبيرًا للنقاش وقراءة الأحداث والوقائع التي يتحدث عنها في نصوص الديوان، حيث يحرص على إثبات قيم ثقافية وإنسانية تتوافق وهويته الخاصة التي يتصف بها ويؤمن بالانتماء إليها؛ كما يسلك أساليب لغوية وإبداعية تصل به إلى تقديم تجاربه في الحياة والثقافة والرؤية إلى العالم. كأننا بالشاعر يحاول الكشف عن أعماقه وأحاسيسه وفضح أسرار الآخر المرتكزة على أفكار غامضة يتستر عليها هذا الآخر المختلف معه؛ كل هذا يؤكد على مغامرته اللغوية المعتمدة على آفاق ثقافية منفتحة على العالم جميعه.
إن أهم ما يتميز به الشاعر صالح لبريني، سواء في ديوانه الجديد هذا أم في دواوينه السابقة، هو أنه شاعر يشارك مع متلقيه ثقافته ومواقفه الفكرية من رؤيته للعالم والآخر بشكل مبدع. كأننا به يفكر في العالم بذاته لا بذات الآخر، لكنها ذات متطلعة إلى المستقبل ومفكرة في الواقع الذي يعيشه مع الآخرين. فكل شاعر مبدع يعرف أن الشعر هو البوابة الواسعة للانفتاح على الآخر، ومحاولة استمالته لسماعه والإنصات إليه بقوة، بالتالي الاقتناع بوجوده وحضوره الثقافي.
*كاتب وناقد مغربي
التعليقات