309
01804
1181
0641
0344
029
068
070
0222
3158
238
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11931
06927
06785
06265
05642
5إعداد – سلوى الأنصاري
يتجلى الوفاء ليعلن حضوره الزاهي على صفحات الشعر ليكون “العنوان” البارز للكثير من التفاصيل الإنسانية التي تبروزها “القصائد” في إطارات من العرفان.
الوفاءُ ذلك النورُ الخالدُ الذي يشع من الأعماق فلا تستطيع أن تُطفئه رياحُ السنين ولا تطمِسُهُ الأيامِ. هو ميثاقُ الأرواحِ الصادقةِ، ووشمُ العهودِ على جبينِ الدهرِ، وعهدٌ لا يقوى على نقضَهُ إلا خائنٌ جُبِلَتْ نفسُهُ على الغدرِ. هو البقاءُ وإنْ فرَّقت المسافاتُ، وثباتُ الروحِ على المحبَّةِ وإنْ تقاذفتها الأقدارُ.
هو أنْ تَظلَّ مُمسكًا بيدِ مَنْ أحببتَ، حتى وإن أفلتَ يدهُ الدهرُ عنكَ، وأنْ تحفظَ الودَّ في الغيابِ كما تحفظُهُ في الحضورِ، وأنْ يكونَ العهدُ عندكَ دينًا، لا تهدمهُ الأهواءُ، ولا تُغيِّرهُ الأيامُ.
هو ذلك الخُلُق العظيم، والسِمَةُ النبيلة، ميثاق غير مكتوب، وحبر مسكوب في الأوردة وقراطيس محفوظة في العقول، تتوارثهُ الأجيالُ كأقدسِ ما في الحياةِ من عهودٍ.
منذُ أن شقَّ الشعراءُ دروبَ البيانِ، كان جاثمًا يبن احرفهم كعملاق عظيم يرتدي حلة البهاء.
فكان أحدَ أعمدةِ قصائدِهم، ينبضُ في أبياتِهم، ويروي حكاياتِهم عن حبٍّ لا ينطفئ، وصداقةٍ لا تخون، وعهودٍ لا تنقضها الليالي، هكذا قدست البشرية عبر العصور صفة الوفاء، فمن الجاهليةِ حتى عصرنا الحاضرِ، ظلَّ الوفاءُ تاجًا يزينُ هاماتِ القصائدِ.
فنجده يتبختر في الشعر الجاهلي فنراه حين يكونُ العهدُ سيفًا لا ينكسر.
لم يكن العربيُّ في الجاهليةِ يراه مجرَّدَ خُلُقٍ، بل كان عقيدةً يعيشُ بها ويموتُ عليها.
كان وثاق يعقد على الأعناق، فيتجلَّى ذلك في قصائدهم، فقد كانت الكلمةُ عهدًا، والصداقةُ حصنًا لا تُهدمُ أركانُه، والحبُّ ولاءً لا يخبو وهجه. ومن أروع ما قيل في الوفاء، قول السموأل بن عدي، الذي ضربَ المثلَ الأعلى في التضحيةِ بالروحِ صونًا للعهدِ، حين قال:
فها مِن آلِ فاطِمَةَ الخُبَيتُ
إِلى الإِحرامِ لَيسَ بِهِنَّ بَيتُ
أَعاذِلَتَيَّ قَولَكُما عَصَيتُ
لِنَفسي إِن رَشِدتُ وَإِن غَويتُ
بَنى لي عادِيا حِصناً حَصيناً
وَعَيناً كُلَّما شِئتُ اِستَقَيتُ
طِمِراً تَزلَقُ العِقبانُ عَنهُ
إِذا ما نابَني ضَيمٌ أَبَيتُ
وَأَوصى عادِيا قِدماً بِأَن
لا تُهَدِّم يا سَمَوءلُ ما بَنَيتُ
وَبَيتٍ قَد بَنَيتُ بِغَيرِ طينٍ
وَلا خَشَبٍ وَمَجدٍ قَد أَتَيتُ
وَجَيشٍ في دُجى الظَلماءِ مَجرٍ
يَؤُمُّ بِلادَ مَلكٍ قَد هَدَيتُ
وَذَنبٍ قَد عَفَوتُ لِغَيرِ باعٍ
وَلا واعٍ وَعَنهُ قَد عَفَوتُ
فَإِن أَهلِك فَقَد أَبلَيتُ عُذراً
وَقَضَّيتُ اللُبانَةَ وَاشتَفَيتُ
وَأَصرِفُ عَن قَوارِصَ تَجتَديني
وَلَو أَنِّي أَشاءُ بِها جَزَيتُ
فقد ضرب السموألُ مثالًا خالدًا للوفاءِ حين رفضَ أن يُسلِّمَ أمانةَ امرئ القيسِ، فدفع بابنهِ إلى القتلِ، لكنَّه لم يحنثْ بالعهدِ، ليصبحَ اسمهُ مرادفًا للوفاءِ في التراثِ العربيِّ في المثل (أوفى من السموأل).
ومع بزوغِ الإسلامِ، أضفى الدينُ على الوفاءِ بُعدًا روحيًا ساميًا، فأصبحَ الوفاءُ بالعهدِ ليس فقط خُلُقًا محمودًا، بل عبادةً تُقربُ العبدَ إلى اللهِ، قال تعالى في محكم كتابه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا}، وقال عليه السلام: (ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ) [رواه أحمد].
ومن أبهى ما قيلَ في ذلكَ في قصائد الشعراء ما أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه، إذ قال:
إذا ما الدهرُ جرَّ على أُناسٍ
كلاكلهُ أناخَ بآخرينا
فقل للشامتينَ بنا أفيقوا
سيلقى الشامتونَ كما لقينا
ومع مرور الزمن، أصبح الوفاءُ أكثرَ رقةً في احرف الشعراء، حيث لم يقتصرْ على الصداقةِ والعهودِ السياسيةِ، بل امتدَّ ليشملَ الحبَّ والوفاءَ للمحبوبةِ، كما في قصائد ابن زيدون حين خاطبَ ولادة بنت المستكفي، قائلًا:
إنّي ذكرتُكِ بالزهراءِ مشتاقا
والأفقُ طلقٌ ومرأى الأَرضِ قد راقا
وللنسيمِ اعتلالٌ في أصائلهِ
كأنَّهُ رقَّ لي فاعتلَّ إشفاقا
وفي هذه الأبيات، يتجلى وفاؤهُ العاطفيُّ، إذ يذكرُ محبوبتهُ حتى وهو في أصعبِ لحظاتهِ، فكان الحبُّ عندَ شعراءِ الأندلسِ عهدًا لا يتبدَّدُ، بل يظلُّ متجذِّرًا في القلوبِ حتى الرمقِ الأخيرِ.
ونجده في العصرِ الحديثِ أصبحَ اكثرَ حزنًا، إذ صار الشعراءُ يتغنَّونَ به في سياقِ الحنينِ إلى أوطانِهم وأحبابِهم الذين فرقَتهم الأيامُ. يقول إيليا أبو ماضي:
سَلامٌ عَلَيكُم رِجالَ الوَفاء
وَأَلفُ سَلامٍ عَلى الوافِيات
وَيا فَرَحَ القَلبِ بِالناشِئينَ
فَفي هَأُلاءِ جَمالُ الحَياة
هُمُ الزَهرُ في الأَرضِ إِذ لا زُهورٌ
وَشُهبٌ إِذا الشُهبُ مُستَخفِيات
إِذا أَنا أَكبَرتُ شَأنَ الشَبابِ
فَإِنَّ الشَبابَ أَبو المُعجِزات
حُصونُ البِلاد وَأَسوارُها
إِذا نامَ حُرّاسُها وَالحُماة
وينشد “محمود سامي البارودي” فيه أجمل القصيد ليصدح عاليًا وللكون مناجيًا، فيقول :
أسيرُ على نهج الوفاء سجيةً
وكل امرئ في الناسِ يجري على الأصلِ
وكأنَّ الوفاءَ في هذا الزمنِ لم يعدْ شعارًا يتغنى به الجميعُ، بل صارَ استثناءً نادرًا، يذرفُ عليه الشعراءُ دموعَ الحنينِ.
ومن الجاهليةِ إلى العصرِ الحديثِ، ظلَّ الوفاءُ كوكبًا لا يأفلُ في سماءِ الشعرِ، تارةً يلمعُ بسيوفِ الرجولةِ والعهودِ الصادقةِ، وتارةً يتجلَّى في دموعِ الحبِّ والحنينِ، لكنهُ لم يمتْ يومًا، لأنَّ الوفاءَ ليس مجردَ كلماتٍ تُقالُ، بل أرواحٌ تأبى أن تخون، وقلوبٌ تأبى أن تغدر، وعهودٌ تبقى محفورةً في ذاكرةِ الزمنِ، كأجملِ ما خطَّهُ الشعراءُ على مرِّ العصورِ.
أعجبني تتبعك لأقوال الشعراء وكيف تغيرت ألفاطهم
وكل عصر وجيل تعلم مافيه من خلال ألفاظهم ىأنهم أصدق الناس مشاعرا.