51
0300
1165
035
046
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11992
09701
09183
07407
56957
0د. هاني الغيتاوي *
تجربة محمود أمين العالم استلهما دون أن يشعر من أشهر سجين في تاريخ الفكر الفلسفي، ودون أن يكتب حرفًا واحدًا من فلسفته أو يترك مخطوطًا يحتويها، تم تخليد فلسفته لأنه كان صادقًا في بوحه، أمينًا في التعامل مع أفكاره وتجسيدها واقعًا عمليًا ملموسًا، وطبق أفكاره على نفسه؛ لذلك كانت لهذه الأفكار أجنحة فحلّقت فوق ربوع الحياة، يستلهما كل أصحاب الفكر والبصائر والضمير، صاحب هذه الفلسفة الخالدة وأشهر سجين تم محاكمته بالإعدام هو الفيلسوف “سقراط” فكيف كان وراء القضبان، وكيف تفاعل مع توقيع عقوبة الإعدام عليه؟ وما موقفه من الحياة وهو ينتظر نهايتها داخل سجنه؟
عاش سقراط حياة بسيطة بعيدًا عن حياة الترف التي كان يرفل فيها معظم الأثنيين مهمومًا بحياة الناس، فسخر نفسه لتعليمهم معنى الحياة وكيف يكون الإنسان جديرًا بها من خلال تعليمهم وحثهم على قيم المحبة والسلام والسعي نحو معرفة النفس وجوهر المعاني السامية التي تجعل هذه النفس خليقة بأن تعيش الحياة، وجسّد سقراط هذه المفاهيم عمليًا من خلال فلسفته في التعامل مع الحياة والناس وتجواله في شوارع أثينا وأزقتها يحاور الناس ويأخذ بأيديهم إلى عالم المُثل والقيم. فلقد عاش حياته يروم الفضيلة ومن أجلها استغنى عن كل ما يحول بينه وبين غايته، ولأن هناك نوع من البشر تقلقه الفضيلة وتعرّيه مبادئها، نقموا على سقراط وأضمروا له البغض والشنآن فحاكوا له التهم واعتبروه رجلًا غريبًا وشريرًا وأنه بلا دين، وأفسد شباب أثينا وهتّك النسيج الاجتماعي لها، وطلبوا بتكميم فمه أو قتله.
وقد كان لهم ما أرادوا وتم الحكم عليه بالإعدام، وكان يستطيع سقراط أن يتخلص من حكم الإعدام لو تراجع عن مبادئه وفلسفته، لكنه أصرّ على موقفه، لإيمانه بمعتقداته وفكره ولم يهب الموت ونزع الروح في سبيل مبادئه وأفكاره، وتجلّى هذا الإصرار في قوله لمحاكميه “لو حكمتم عليّ بالموت لن تجدوا من يحل محلي” وهذا ليس عنادًا ولا زهوًا أخرقًا ولا تكبرًا، بل هو التزام بالحقيقة، وتمسك بالمبادئ وترسيخ للعقيدة التي آمن بها، والمبادئ والأفكار التي أنفق جل حياته ينثرها في ربوع أثينا، مؤملًا أن تجد لها صدى عند الناس.
من أجل حفاظه على المبادئ، ونشره للفضيلة وقيم المحبة والتسامح، تم الحكم على سقراط بالإعدام، واقتيد للسجن إيذانًا بتطبيق هذه العقوبة عليه، وفي سجنه لم يتغير شيئًا، بل كان أكثر تمسكًا بمبادئه وأفكاره، يظهر ذلك جليًا في رفضه الهرب من السجن عندما سنحت له الفرصة للهروب، لكنه أبى إلا التمسك بمبادئه. يقول سقراط “لماذا التمادي في التمسك بالحياة إذا لم أكن سأعيش للأبد”، إن سقراط رغم علمه بدنو أجله لكنه يطبق مبادئه على نفسه، ويستحي أن يخرقها أو يخرج عليها، ولم يقامر على هذه المبادئ حتى ولو كان لشيء يستحق المقامرة عليه وهي أغلى ما يملك الإنسان وهي الحياة، فقد كان متصالحًا مع نفسه، وصادقًا معها؛ لأنه عرفها معرفة يقينية كما ورد عنه في قوله المأثور “اعرف نفسك” لقد عرف سقراط نفسه وتجلّت هذه المعرفة في مواقفه التي تتابعت في سجنه، فهو لم يخامره الحزن ولا الضجر ولا التذمر من الزج به وراء القضبان، ولم يختلق الحجج بأنه بريئ من التهم المنسوبة إليه، فيتذرّع عندئذ بهذه الحجة ويتخذ منها وسيلة للهروب، لكنه ظلّ أمينًا لمبادئه وما يعتقده وما يدين به، فيقول لتلامذته وأصدقائه الذين نصحوه بالهرب “تلك قوانين المدينة ويجب أن يخضع لها المرء حتى لو كانت ظالمة؛ لأنها تسري على الكل”.
وفي السجن يتجلّى معدن هذا الفيلسوف أكثر وأكثر، فتنعكس شفافيته وتأثيره على كل الحاضرين في السجن، فتلكم أصدقاؤه يترجونه بأن يؤخر ميعاد تنفيذ العقوبة وشربه للسم، معللين ذلك بأنه ما زال في أول النهار، والشمس لم تغب بعد، لكنه بثبات إيماني عميق أكد لهم بأن سيشعر بالخزي والمهانة أمام نفسه إذا تمسك بالحياة وأخذ السم بكل هدوء، حتى سجانه الذي أعطاه السم والمعروف عنه بأنه يُهتّك روح مسجونيه وأجسادهم، أظهر الاحترام والتقدير والعطف له فقال له وهو يناوله السم “في الأيام التي قضيتها هنا، أدركت أنك أكرم وألطف وأفضل رجل مر في هذا المكان.. وأنت تعلم الرسالة التي سأنقلها: وداعًا إذًا، وحاول مواجهة المحتوم بأشد ما يمكنك من يسر”.
لقد انهمر الحاضرون في البكاء، لم يستطيعوا كبح الدموع، وهم يرون سقراط وهو يشرب السم، بنفس راضية ودون أي كراهة أو امتعاض أو تذمر أو شكوى، لقد انكسر الجميع أمام هذا الصمود والثبات، وما أن رأى منهم هذا الانكسار حتى راح يناشدهم الهدوء، وراح بعدها يتجول في سجنه، حتى أخذ السم مفعوله واستشرى في جسده، وثقلت ساقاه، فخارت قواه الجسدية واستلقى على ظهره، وبدأ الإحساس بقدميه وساقيه يتلاشى، ومع اندفاع السم إلى صدره، فقد وعيه وأصبح التنفس بطيئًا، وما هي إلاّ ثوانٍ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
لقد أسدل الستار على قصة أشهر مسجون محكوم عليه بالإعدام في التاريخ، وترك لنا إرثًا من اللحظات الإنسانية، وكيف يتجلّى المعدن الحقيقي للإنسان صاحب المبدأ عند مواجهة مصير بائس وظالم، لم يتزعزع عن مبادئه، ولم يجبن للنجاة، ولم يساوم على ما يؤمن به ويعتقده، لقد كان صدقه مع نفسه هو ما كتب الخلود لفلسفته، والتي ما زال تأثيرها ظاهرًا وملموسًا حتى الآن، لقد عاش فكره ودام أثره، لأنه آثر الحفاظ على القيمة والمبدأ، وتسربل بالنزاهة الحقيقية حتى ولو كان الثمن حياته، لكل هذا التفاني والانتصار للقيم والمبادئ، ظل سقراط بفلسفته وفكره يملأ الدنيا ويشغل الناس، وكانت فلسفته هي النبع الصافي الذي متح منه الفلاسفة والعلماء الإلهام، وكذلك كل شخص يتحرّى الحقيقة.
*كاتب من مصر
التعليقات