الأكثر مشاهدة

إعداد – سلوى الأنصاري تتشكل الرواية كمرآة واسعة.. تعكسُ من خلالها المجتمعا …

الرواية.. صدى الحياة ومرآة الشعور

منذ 11 ساعة

41

0

إعداد – سلوى الأنصاري

تتشكل الرواية كمرآة واسعة.. تعكسُ من خلالها المجتمعاتُ تفاصيلَ حياتِها، وصورةً أدبيةً تتجاوز حدودَ التسلية إلى الغوصِ في عمقِ الوجود الإنساني.. فهي لا تكتفي بسرد الأحداث أو تصوير الشخصيات، بل تنسج شبكةً من العلاقات الاجتماعية، تُظهر الصراعات والتناقضات، وتُضيء القيم والعادات، وتكشف عن أحلام الأفراد وآلامهم في إطار الجماعة. 
هذه هي الروايةُ التي لا تعد حروفًا على ورق، ولا حكايةً تُروى لتزجيةِ الوقت؛ بل هي مرآةُ حياةٍ وصرخةُ روح، تنبضُ بآمال الناس وآلامهم، وتُجسّد في بوحها صورةَ المجتمع بما فيه من تناقضاتٍ وتحوّلات.. إنّها كمرآةٍ صافية، تعكسُ لنا تفاصيلَ الواقع، وتُحيلُه إلى عوالم من الخيال والفنّ، حيث تمتزج الحقيقةُ بالتصوير، والعاطفةُ بالعقل، لتبقى سجلًّا إنسانيًّا خالدًا.
لقد ارتبطت بالحياة الاجتماعية ارتباطَ الجسد بالروح؛ فهي تُصوّر طبقات المجتمع، وتكشف المستور من عاداته وتقاليده، وتضع القارئ في مواجهةٍ مباشرة مع هموم الناس وطموحاتهم.. ففي ثناياها نلمح الصراع بين الفقر والغنى، وبين الحرية والقيد، وبين المرأة الباحثة عن ذاتها والرجل المتمسك بسلطته، فنرى الحياة الاجتماعية كلوحةٍ فنيةٍ مليئةٍ بالألوان والظلال.

ولعلّ الروايات العربية قدّمت نماذج باهرة في هذا الباب؛ ففي رواية “الثلاثية” لنجيب محفوظ نقرأ سيرة عائلةٍ مصرية عبر ثلاثة أجيال، فنشهد من خلالها تحوّلات المجتمع المصري سياسيًّا واجتماعيًّا. وفي رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح نرى صدام الثقافات وما خلّفه الاستعمار من ندوبٍ في النفس والمجتمع.. كذلك نجد عند غسان كنفاني في رواية رجال في الشمس صورة الفلسطيني التائه في أوج محنته، حيث تتحوّل الرواية إلى صرخة ضميرٍ ضد الظلم والخذلان.
ونرى كذلك كيف حلقت بنا ذاكرة الجسد – أحلام مستغانمي اتروي قصة رسام جزائري فقد ذراعه في الحرب، ليجد نفسه ممزقًا بين حب مستحيل وذكريات وطن جريح، في مزيج بين العاطفة والسياسة.
ونجد كذلك في عزازيل ليوسف زيدان.. 
كيف جسدت الرواية تاريخًا تدور أحداثه في القرن الخامس الميلادي، تروي رحلة راهبٍ مصري يعيش صراعًا بين الإيمان والشكّ، وبين الرغبة والقداسة. 

أما في الأدب العالمي، فقد قدّم فيكتور هوغو في روايته الخالدة البؤساء، ملحمةً إنسانية تُجسّد مأساة الفقر وظلم المجتمع، لتصبح صرخة في وجه البؤس والحرمان.. كما أبدع تولستوي في الحرب والسلام حين مزج مصائر الأفراد بمصير أمةٍ بأكملها، ليُظهر كيف تنعكس التحوّلات الكبرى على تفاصيل الحياة اليومية.. أمّا تشارلز ديكنز، فقد صوّر في روايته أوليفر تويست براءة الطفولة وهي تكافح وسط فقرٍ قاسٍ ومجتمعٍ جائر.

إنّ الرواية بهذا المعنى ليست مجرد متعة جمالية، بل هي أيضًا وعيٌ متجسّد، وموقفٌ فكري، وصوتٌ للمقهورين، ومنبرٌ للأصوات الصامتة.. فهي قادرة على أن تُحرّك المشاعر وتُثير الأسئلة، بل أن تُغيّر نظرة القارئ إلى نفسه وإلى محيطه.
وهكذا تبقى الروايةُ ابنةَ المجتمع وضميرَه، تلتقط أنفاس الناس وتحوّلها إلى كلماتٍ خالدة.. هي الجسر الذي يصل بين الواقع والحلم، بين الفرد وجماعته، بين الأمس والغد. وإذا تغيّرت الحياة الاجتماعية في نسقها وأطوارها، فإن الرواية ستظلّ تسجّل هذا التغيّر بمدادٍ لا يجفّ، وتبقى شاهدًا صادقًا على نبض الإنسان في رحلته الأبدية مع الحياة. 

مع احتفاء العالم باليوم العالمي للرواية في الثالث عشر من أكتوبر من كل عام، تتجدّد الأسئلة حول سرِّ خلود هذا الفن وقدرته العجيبة على ملامسة الروح الإنسانية.. فالرواية ليست مجرّد أوراق تُقلب، بل هي أوطان صغيرة نسكنها، وأصوات مكتومة تنطق بنا، وجسور تصل بين القلوب مهما تباعدت الأمكنة والأزمنة.
دعونا نحتفي بتلك القدرة السحرية على جمع المتناقضات.. فهي فنٌّ يجمع بين الواقع والخيال، بين الماضي والمستقبل، بين الفرد والمجتمع، وبين الأمل واليأس.. إنّها لغة كونية تعلو على حدود الجغرافيا واللغة، وتمنح البشر فرصة اللقاء في عالمٍ أرحب من عالمهم الضيّق.
فلنكن على موعدٍ مع الرواية، لا بوصفها كتابًا نقرأه ونضعه على رفّ، بل كرفيقٍ يُعلّمنا الإصغاء للآخر، ويزرع فينا بذور الحكمة، ويفتح لنا نوافذ على مجتمعاتٍ وتجارب لم نعشها.. إنّ اليوم العالمي للرواية دعوة مفتوحة لأن نعيد اكتشاف ذواتنا في صفحاتها، ونمنح للخيال جناحين يُحلّق بنا نحو إنسانيةٍ أكثر صفاءً وعمقًا.

الكلمات المفتاحية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود