مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

  عبدالعزيز قاسم* من خلفِ هذا الزجاجِ العريضِ، الذي يَقسمُ الأفقَ أمامي إلى ثلاث …

مرمرة.. حين يكتملُ البحرُ بالوجوه

منذ يومين

12

0

  عبدالعزيز قاسم*

من خلفِ هذا الزجاجِ العريضِ، الذي يَقسمُ الأفقَ أمامي إلى ثلاثِ لوحاتٍ نابضةٍ، أقفُ شاهدًا؛ الغرفةُ خلفي لا تزالُ تَغطّ في سكونٍ كالحريرِ، والمدينةُ أمامي تَصحو على مهلٍ كطفلٍ يُفتَحُ له الضوءُ بنعومةٍ.
هنا، من صالةِ صديقي النبيلِ في إسطنبول، يُولَدُ الفجرُ.
طريقٌ ساحليٌّ يَلتفُّ في الأسفلِ كأنّه قوسٌ من ضوءٍ سائلٍ، وسُفُنٌ راسيةٌ، عَقدتْها المدينةُ سُبحةً من خَرَزٍ مُضيءٍ في خاصرةِ المرسى. والبحرُ – وجهُ مرمرة الذي يَصُبُّ روحَه في البُسفور – يَتهجّى أُولى كلماتِ النهارِ في سكونٍ مَهيبٍ. الزجاجُ يجعلُ هذا الأفقَ الغَضَّ، أقربَ إليّ من كفّي.
صلّينا الفجرَ، وجلستُ أُسبّح. لكنّي، في الحقيقةِ، لم أكن أعدُّ الأذكارَ، بل كنتُ أعدُّ أنفاسي أمامَ هذا الجلالِ. أُراقبُ اللونَ وهو يَنسلُّ من عتمةِ الليلِ، قطرةً قطرةً، كحِبرٍ سماويٍّ يُلوّنُ صفحةَ الوجودِ.
أدركتُ في تلكَ اللحظةِ أنَّ النورَ ليسَ صاعقةً تَنقضُّ على الظلامِ، بل هو تربيةٌ بطيئةٌ للروحِ، وتهذيبٌ هادئٌ للقلبِ. العالمُ كلُّه، في هذه الدقيقةِ، يُشبهُ سرًّا عظيمًا يُوشكُ أن يُباحَ.
يا الله! التسبيحُ الحقيقيُّ ليسَ عدَّ الكلماتِ، بل هو عدُّ الأنفاسِ أمامَ الجلالِ.
رميتُ ببصري إلى ذلكَ الأفقِ الآسرِ، وتساءلتُ في صمتٍ: ما الجمالُ؟

مهلًا، قِفوا أيّها الأحبةُ.
أتظنّونَ أنَّ هذا البهاءَ الساحرَ، بكلِّ عظمتِه الأسطوريّةِ، يَكمنُ في الحجرِ، أو في زُرقةِ الماءِ، أو في وهجِ الأفقِ؟
مَن يظنُّ ذلكَ، فقد بنى قصرَه على الماءِ. مَن يَختزلُ الوجودَ في المنظرِ وحدَه، فقد سقطَ في أعمقِ وَهمٍ للحواسِّ. هذا المشهدُ كلُّه ليسَ إلّا إطارًا باهتًا لجمالٍ يَفيضُ من مكانٍ آخرَ.
حقًّا: الحواسُّ تُغري؛ والبصيرةُ تُحرّرُ من أجملِ الأوهامِ!
خُذوها منّي، واحفظوها عن رجلٍ أمضى شطرَ عمرِه في الأسفارِ: الجمالُ الحقيقيُّ هو الروحُ التي تُشاركُكَ النظرَ. الروعةُ هي دفءُ الصحبةِ الذي يُذيبُ جليدَ الغربةِ. الأُنسُ الحقيقيُّ هو في نُبلِ الإخوةِ الذين يُحيطونَ بك، هم الذين يُمنحونَ المكانَ معناَه، وهم الذين يجعلونَ من إسطنبول، بكلِّ ثِقلِ تاريخِها، مجرّدَ بيتٍ دافئٍ نتبادلُ فيه أطرافَ الحديثِ.

الجمالُ هو تلكَ الرفقةُ التي تُجيدُ الإصغاءَ، وتَعرفُ متى تَضعُ يدَها على كتفِك، حينَ يَغصُّ حَلقُك بالكلامِ. الجمالُ حينَ تَلتقي صديقًا أثيرًا لم تَره من أزمنةٍ، حتى تكادَ لا تُميّزُه، لتقومَ باحتضانِه بكلِّ السعادةِ أنْ رأيتَه بمكانٍ لم تَتوقّعْه!
ما قيمةُ البُسفورِ إنْ حدّقتَ به وحيدًا؟ إنّه مجرّدُ فراغٍ جميلٍ.. سِجنٌ فسيحٌ من البهاءِ.
لكن، حينَ يُبادرُني صديقٌ، منذُ وطأتْ قدماي هذا المكانَ، بكوبِ قهوةٍ مُثلّجةٍ، فهو لا يُقدّمُ لي سائلًا، بل يُقدّمني “فهمًا”. هو يَقرأُ تضاريسَ روحي قبلَ أن يَقرأَ مزاجي. هو يَسكبُ في الكوبِ ميثاقَ أُخوّةٍ صادقةٍ أثمنَ من البنِّ.. هنا، في هذهِ اللفتةِ، يَكمنُ الجمالُ كلُّه.
يا سادةُ: إنَّ فنجانَ قهوةٍ يُقدَّمُ بـ”حبٍّ”، أجملُ في القلبِ من كلِّ مياهِ البُسفورِ أمامَك.
وعندما تَتعالى ضحكاتُنا، صادقةً، حيّةً، حتى لكأنّها تَجتاحُ صمتَ الزمانِ وتَصلُ إلى أسوارِ القسطنطينيّةِ العتيقةِ، فنحن لا نَضحكُ، بل نُعلنُ انتصارَ الروحِ على الحجرِ. نُعلنُ أنَّ دفءَ هذهِ اللحظةِ الإنسانيّةِ أخلدُ من كلِّ هذا التاريخِ الصامتِ.
أيّها الأحبةُ:
ليسَ مثلَ الرفقةِ جمالٌ، ولا مثلَ الأصدقاءِ طِيبٌ. المكانُ إطارٌ، والوجوهُ هي اللوحةُ.. والبحرُ، بكلِّ جبروتِه، لا يَلمعُ إلّا حينَ تُجاورُه قلوبٌ دافئةٌ، تُحسنُ أن تُقيمَ لك وطنًا، ولو لليلةٍ واحدةٍ.
‘دومًا: المكانُ وطنٌ مؤقّتٌ؛ بيدَ أنَّ الحبَّ والوَجدَ والضحكاتِ بينَ الأصدقاءِ وطنٌ مُقيمٌ.

*كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود