427
1265
0283
0439
0318
025
019
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11846
05024
04937
04798
04448
17“يها، لباب قرقف”
ومَرَرْنا بنِسْوَةٍ عَطِراتٍ
وسَماعٍ وقَرْقَفٍ فنَزَلْنا
يقول مالك ابن أسماء، وكان شاعراً غزلاً ظريفًا:
حَبَّذا لَيْلَتِى بتَلِّ بَوَنَّا
إِذْ نُسَقَّى شَرَابَنا ونُغَنَّى
من شَرَابٍ كأَنَّه دَمُ جَوْفٍ
يَتْرُكُ الشَيْخَ والفَتَى مُرْجَحِنَّا
حَيْثُ دارَتْ بنا الزُّجاجة دُرْنا
يَحْسِبُ الجاهِلُونَ أَنَّا جُنِنَّا
ومَرَرْنا بنِسْوَةٍ عَطِراتٍ
وسَماعٍ وقَرْقَفٍ فنَزَلْنا
كثيرًا ما أقول بضرورة النظر إلى فن الشعر بعيدًا عن موضوع النص وغرَضه، وهي حالة يصعب إقناع الكثير من الناس بها.
إن الشعر فنٌ قائمٌ بذاته، ومتعةٌ قائمةٌ بذاتها بعيدًا عن موضوع النص، أو الغرض الذي قيل فيه الشعر، وهنا يكون الفرق بين الخبر الإنشائي، والتأدب. بمعنى أن الشعر ليس نقلاً للحقائق كالأخبار مثلاً، وإن كان موضوعه الأخبار والقصص، والمواقف الإنسانية على اختلافها، وعليه، فإن الشعر – كما أسلفت – ، إمتاع، لا نقل لخبر أو حادثة، وعلى هذا النحو تجب قراءة الشعر، لأن الله تعالى قال في حق أقوال الشعراء:
“وأنهم يقولون ما لا يفعلون” ويمكننا أن نشرح هذا المعنى بقولنا أنهم يتأدبون، ويتفننون، ويظهرون حسن أحاديثهم، وجميل تصويرهم، ونظمهم، ولا يعنيهم الخبر مهما يكن، فهم مبالغون في وصف حبيباتهم، وممدوحيهم، ومبالغون في كل تعاطيهم للأخبار والأحوال، وهذه المبالغة هي صنعتهم.
أعود إلى جمال التصوير في أبيات مالك بن أسماء:
إن مما لفت نظري استحسانًا لهذه الأبيات من قصيدة مالك: التصريع والقافية، تلكم الحِلية في الشعر، وكيف أنها تصبح في قليل من الشعر أساسًا، وبناءً قائما بذاته، تمامًا كالقافية في هذه الأبيات، إذ تقف متعة بذاتها لا زينة وتتممة.
بَوَنَّا، نُغَنَّى، مُرْجحنَّا، جُنِنَّا.
حَبَّذا لَيْلَتِى بتَلِّ بَوَنَّا
إِذْ نُسَقَّى شَرَابَنا ونُغَنَّى
من شَرَابٍ كأَنَّه دَمُ جَوْفٍ
يَتْرُكُ الشَيْخَ والفَتَى مُرْجَحِنَّا
حَيْثُ دارَتْ بنا الزُّجاجة دُرْنا
يَحْسِبُ الجاهِلُونَ أَنَّا جُنِنَّا
ومَرَرْنا بنِسْوَةٍ عَطِراتٍ
وسَماعٍ وقَرْقَفٍ فنَزَلْنا
يذكر الشاعر بكل حب، وحنين ليلة باتها مع أصحابه في موضع اسمه تل بَوَنَّا، وهو يقول أنهم كانوا بهذا التل، أهل سماع وشراب، أي غناء وموسيقى، وشرب، وهم لا يشربون الخمرة بأيديهم، وإنما تُعلُّ لهم، فهم كما قال يسقَّون، أي يطاف عليهم بالسقيا، ويُغَّنون، أي تغني لهم القيان، ثم إنهم يُسّقَّون من شراب كأنه دم جوف، أي حمرةً، في إشارةٍ إلى أنه معتق، ليس هذا فحسب، بل إن الشراب هذا يترك الشيخ، أي الكبير، والفتى يرجحن، أي يتمايل ويهتز طربًا وسكرا.
ولكم أهاجني طربًا قوله “ونُسقَّى شرابنا ونُغنَّى”.
ثم إنه يصور حالهم تصويرًا رائعا، إذا يدورون كلهم حيث تميل الزجاجة وحاملها، وإنك إن رأيتهم وهم في هذه الحالة، ستظن، أنهم قد جنوا.
وجمال التصوير في قوله “حيث دارت بنا الزجاجة درنا” مبالغ فيه، ولكم أن تتصوروا حالة تلكم الجماعة، تتمايل في طلب رشفة، تعلّ في كؤوسهم المرفوعة إلى الساقي، بينما قد يتمنع الساقي في حالة توحي إلى الجاهل (وفي تجهيله الناظر لهم متعة أخرى، يسفه فيها العاقلين، مما هم فيه من متعة) أنهم جنوا.
ثم يلي هذه الجنون بيت، هو ما لفت نظري، وأردت الإشارة إليه في المعنى، وهو قوله:
ومَرَرْنا بنِسْوَةٍ عَطِراتٍ
وسَماعٍ وقَرْقَفٍ فنَزَلْنا
إن هذا البيت فيه لغة قد تذهب إلى اليمن، ذلك إن ذهبنا بالكلمة “قرقف” مذهبًا غير الخمر، ذلك أن القرقف: اسم للخمر، إذ يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين: والقرقفة الرعدة.
وهذا ما أردته، من القاموس، لأذهب بمعنى قرقف إلى الضرب على الطبل أو الدف، ففي الرعدة اصطكاك بالأسنان ببعضها محدثة صوتًا أشبه بالإيقاع، ويقول أهلنا في لغة التقرايت، قَرْقِفْ إنَّا، أي قرقف لنا، أي غَنِّنا، ووَقِّع على آلتك التي بين يديك.
ودليلي في ذهابي بمعنى قرقف إلى غير ما يذهب إليه الشُراح من تأويل قرقف إلى الخمر في هذا البيت، هو أنهم قد نالوا من الخمر ما جعلهم يجنون جنونًا، فهم مكتفون، لا حاجة لهم بشرب، ثم إن مرورهم كان بنسوة عطرات، وسماع، أي غناء وعزف، وقرقف، أي ضربٌ على الطبلِ وما أشبهه من آلة إيقاع، لاتساق المعنى قرقف هنا والإيقاع، لا الشرب، وهم إنما نزلوا لدى أولئك النسوة اللاتي جذبن الشاعر وأصيحابه وهم على إبلهم، أو خيلهم، للسماع والقرقف، والابتهاج بأنسِ أولئك النسوة العطرات لا لتعاطي الخمرة بعد انفضاض سامرها.
ويقول أهلي إذا أرادوا قول اطرق الباب، قرقف الباب، ويظهر جليًا المعنى في القرقفة من معنى اسم الصوت من مثل الشقشقة، والحفيف، والصرير.
وقولنا: يها لباب قرقف، تعني يا هذا، قرقف الباب، أي اطرق الباب.
*كاتب من السودان
التعليقات