مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

ياسر المعلا*      لا يوجد إنسان إلا ويستعمل آخرين في قضاء حاجاته، مهما وصل إليه …

الخروج من سلطة الشبكات الذهنيّة || قفزة وعي مُغيَّبة

منذ 4 سنوات

600

0

ياسر المعلا*

     لا يوجد إنسان إلا ويستعمل آخرين في قضاء حاجاته، مهما وصل إليه من مستوى متقدم في سلّم الإنسانيّة. نحن نعيش على قيد هذه الحياة وتصاحبنا أغلالٌ أُحكمَت على عقولنا، وأغلالٌ أخرى أحكمناها نحن على آخرين. ولا أظن إلا أن المعاني الحقيقية لكلمة إنسان بدأت تضيع معالمُها بشكلٍ تنازلي على إثر القوة الضارية لسحق كل تلك المعاني التي تميّز الإنسان عن سواه. إنها قوَّة الاقتصاد الذي حُصر الإنسان داخل أُطُرِها، وكان من قبل يحظى بالقليل جدًا من حرية إرادته، لكنها سُلبت منه الآن بشكلٍ تام، وأنا أجزمُ على أن الإنسان أصبح مبتذلًا قذرًا يتغذّى على غيره تمامًا كما يتغذّى عليه آخرون.

     يجدر بي أن أقول في المستهلّ قاعدةً ليست بجديدةٍ وهي بديهية للغاية، و لكنها ذات شأنٍ وأهمية، بأن كلَّ إنسانٍ بالضرورة بشريّ، وليس كل بشريٍّ إنسان، والمنطلق الذي يجب أن أبني عليه خطابي هنا سيكون موجهًا للإنسان تحديدًا، فهل أقول لك شيئًا أيها الإنسان، أو على الأقل لما بقي شيئًا من إنسان بداخلك؟ لقد تشوَّه الضمير تباعًا لتوالي عصور الإنسان بل لا أظنه إلا في آخر مراحل التشوّه ومصير الشيء إلى الفناء مرورًا بالتلاشي التدريجي. فهل حقًا تعتقد أنك إنسان؟

     حسنًا، وليكن ذلك، على الأقل ها أنت تهتم لأن تكون إنسانًا، في وقتٍ ذابت فيه جُل القيم الإنسانية والمكتسبات الأخلاقية التي تميّزنا عن سائر المخلوقات. وحديثي -مرةً أخرى- سيكون موجهًا إليك أيها المتورّط بهذه الحياة، نعم أنت. أيها الساكن في شرنقةٍ متينة، تدور فيها بكلِّ هشاشتك دون توفُّر أية خياراتٍ لك. مع كل أمانيك التي تسعى لتحقيقها عبثًا، طالما لا تزال تحت تأثير مُخدِّرِ أولئك الناس الذين تهيمن حيواتهم على حياتك. ولكن مهلًا! لعلّك لا تعي ما أقوله الآن لأنه يفوق استيعابك الذي تم تقييده سلفًا بسقفٍ يحدُّ من قدرتك على استعمال الخيال الجامح الذي يساعدنا في بعض الأحيان على اكتشاف الحقائق المغيّبة عن أغلب بني البشر. قد تكون أخي الإنسان غير مستعدٍ بَعدْ لاستيعاب ما سأقوله الآن، ولكني على الرغم من ذلك لن أتورّع هذه المرة عن الحديث، حتى لو كان الأمر متأخرًا. فأعتقدُ بشكلٍ صريح أني سئمت من كوني إنسانٌ مغيَّب من قبل، وسئمت أيضًا بعد أن اكتشفت بعض الحقائق المنطقية، أن أظل صامتًا حتى الساعة!

     أنت أيها الإنسان تسير هائمًا على وجهك في هذه الحياة إن لم تستمع بإصغاء -ذات يومٍ- إلى الجزء الصغير الذي في أعماقك، تلك الأفكار التي تحاول إعادة حياتك والتي تتعارك معها أفكارك ذات السُّلطة على عقلك في محاولة إسكاته والتلاعب على وعيك بأن هذا الجزء لا تنشأ منه إلا الأفكار الأشد إيذاءً لك ولحياتك. ورغم ذلك إلا أن هذا الجُزءَ المتخفّي بأعماقك لا يملُّ أبدًا من الظهور والمطالبة. فإن كانت تنتابك تلك الأفكار السّحيقة حقًا، فهذا مؤشرٌ جيّد، ذلك يعني أنك لا تزال قابلًا لإنقاذ نفسك. فلحسن الحظ ثمة شيءٌ يصرخ من أعماقك بصوتٍ حاد ومنخفض في الوقت ذاته، ليخبرك في كل مرةٍ تزدحم فيه أفكارك: استيقظ، حياتك ليست لك، أنت تعيش حياة آخرين. أنت تنفّذ رغباتهم حرفيًا بعد أن وضعوا عليك تلك الأغلال التي جعلتك تستسلم لهم إلى درجة أنك لم تعد تهتم ما إذا كانت حياتك المُعاشة هي حياتك أم حياة غيرك؟ هذا إذا شعرت بذلك في الأصل! ولكن ها أنت الآن بدأت تشعر ببعض الأفكار المتصاعدة إلى وعيك، وكأني بك تشعر بها الآن، أليس كذلك؟ نعم أخي الإنسان، أنا أعلم ذلك على وجه الدقة، بعد خوضي لتجربتي الشخصية. أنت بدأت تستعد لذلك الأمر، ويومًا ما ستحاول إنقاذ آخرين تشابهت قصصهم بقصصك. أنت الآن في صدد الانتقال إلى حياتك الحقيقية والخروج من حياة الشبكات المؤذية، إن توفرت لديك الرغبة في ذلك. وفي حال شعرت بأن هذا الكلام موجهٌ لك، وحرّك موجات الصوت القصيّة الكائنة في داخلك. فهذه الخطوة الأولى، ويجب أن تأتي الخطوة التالية ولتكن أكثر ثباتًا. لأنك بدأت تدرك قليلًا بأنك محاطٌ بأشخاصٍ مشابهين لك في نمط الحياة، ولديكم أشبه ما يكون بفكرة جمعية لا واعية تحتم عليكم التعايش مع هذا الواقع البئيس والقضاء على أي شخصٍ يحاول إبداء معارضته لما يحدث، أنتم في شبكة دائرية ومن دونكم شبكة وتعلوكم شبكة أخرى، فترضون بأوضاعكم السيئة لأن هناك من هم أسوأ منكم بأوضاعهم. كل شبكةٍ تتغذى على الشبكة الأصغر حجمًا منها والأكثر عددًا حد الاختناق! وكل شبكةٍ تستخدم أشخاصًا من الشبكة التي أدنى منها في الخدمة، فكما لديك من يخدمك من دونك في تيسير أمورك، بل وإسعادك على حساب حياته التي لم يعشها أصلًا فهناك من هو فوقك، وتخدمه بكل سرورٍ منك وغبطة على تفانيك في خدمتهم، هذا في حال إذا كنت لا تعي بعدْ بأن حياتك التي تعيشها ليست حياتك. أما إذا كنت قد بدأت تعي بذلك، فأنت على الأرجح تقدم خدماتك لهم وأنت تصرخ من الداخل ألمًا على هذا الوضع الذي عشته، على تلك السنوات المُهدرة التي حُسمت من رصيد عمرك هباءً منثورًا، لكنك رغم هذه الصدمات، تسعى حثيثًا لاستجماع كل قوةٍ ممكنة، لتحقيق تلك القفزة التي من خلالها تستطيع وضع النقاط على الحروف وذلك سبيلًا لكسر كل هذه الأغلال التي تقيد عقلك وقلبك معًا، فتقفز بها إلى الأرضيّة المخصصة لك أنت وحدك، إنها حياتك الحقيقية. المتاحة لك أنت خصيصًا للعيش فيها وتطويرها وتنظيمها بالشكل الذي يروق لك أنت، لا لغيرك. أنا أتحدث إليك أنت أيها الإنسان وللصّوت الذي لا تريد لعقلك أن يسمعه، نعم أنت. أيها البائس دائمًا.

*كاتب سعودي

حساب تويتر:  y22s3

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود