335
0
527
0
538
0
612
0
1253
0
27
0
62
0
156
0
231
0
99
1
56
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12028
0
11329
0
10653
0
9655
5
8046
0

حسام الدين يحيى*
اليوم خريفي وجميل، والشمس تشرق بدفء.. “أليس كذلك؟” قالها الرجل الذي يجلس أمامها في عربة القطار.. ابتسمت وهزت رأسها بالموافقة، ونسمة هواء باردة خفيفة عبرت نافذة القطار، فسبحت خصلات من شعرها الأصفر على وجهها البض.. عدلت الخصلات الحريرية برفق.
“أنتِ تشبهينها تمامًا، هل تعرفين ذلك؟” لم تتوقع الأمر، لكنه أخرج محفظة جلدية.. أطلق القطار صافرة مزعجة تنبّه المتأخرين للحاق به.. “ها هي”، قالها ومد يده بصورة قديمة بالأبيض والأسود لفتاة تجلس على حافة الرصيف في حديقة واسعة.. كانت جميلة ويافعة، عيناها واسعتان.. لم تندهش من الأمر؛ لأن ملامح الفتاة كانت تشبه ملامحها بالفعل.. “كأنك هي، ابنتها، أختها التوأم، ربما هي بالفعل.. لا، سأقول لكِ ربما أنتِ هي، روحان في جسد واحد“.
في البداية، لم تلتفت إلى الشخص الجالس أمامها.. لم تميز صوته، لكنه كان صوتًا مألوفًا.. كانت الأصوات داخل القطار أكثر صخبًا من خارجه.. كانت قد انتهت لتوها من علاقة عابرة؛ هو كان أنانيًا، ووسيمًا، وواثقًا من نفسه، وهي لم تكن تملك الرفاهية للتفرغ له.. كانت مشاعرها سطحية، وبين الفتور والأنانية، انتهى الأمر بسرعة كما بدأ.. قالت لنفسها: “شباب اليومين دول مش قد المسؤولية”.. تساءلت: هل كان الأمر يستحق المحاولة معه مجددًا؟ وبين يديها، كانت صورة الفتاة بالأبيض والأسود.
الرجل يغني: “يا حلو صبح يا حلو طل”، وينظر من النافذة، يتنفس ببطء كما لو كان يستمتع بالهواء الداخل إلى رئتيه، والخارج منها.. “هي ماتت منذ عام”، وطفت الدموع على عينيه.. مدت يدها بالصورة وقالت: “الله يرحمها”.. مسح دمعتين هربتا من عينيه خلسة بإبهامه.
“هل تحبين تلك الأغنية؟” قالها، ثم أكمل وهو ينظر تجاه النافذة: “من قد إيه وأنا بستناك، وعيني على الباب والشباك علشان أقولك واترجاك“.
قالت لنفسها: “هو شخص آخر يتذكر، والذكريات الجميلة مؤلمة“.
وصل القطار إلى محطة مصر، وكان الرجل قد بلغ سنّ الشيخوخة. قال لها: “العمر أمامك”. استغربت من كلامه.. أخبرها أنه في الستين من عمره، ويستطيع فهم الناس من نظرة عين.. “لكنها كانت تفهم الناس أكثر مني.. كانت ستحبكِ لو التقيتما قبل الآن.. أنا واثق أنها كانت ستعتبركِ ابنتها.. لم نرزق بأطفال، لكني كنت طفلها، وهي كانت فتاتي وحبيبتي“.
كان صوت الأطفال عاليًا عندما عبرت مجموعة منهم مع ذويهم.. وصوت الأم مبحوح، يختفي في زاوية غير مرئية من القطار.. كانت تتذكر في زاوية معتمة من عقلها عندما تركها أبوها ورحل.. بكت كثيرًا عليه، وكانت تخبرها أمها كلما سألت عنه أنه “الواطي تركنا لكلاب السكك”.. فكانت الأم تعمل في الحياكة، وتخيط الفساتين للزفاف وربات البيوت.. كانت مبهرة ومميزة، وشعرها أصفر طويل، ووجهها رفيع ومنحوت كعصفور كناري.
وكانت هي تحب القطط، وتموء كل مساء من الوحدة، وتخربش كل من يهتم بها.. لكن كما يقولون: “القط بيحب خناقه”.. لذلك، أحبَّت الذي يشبه أباها، متزوجًا وعيناه فارغتان، لكنه احتواها وكان نعم الأب.. يسمع وينصح ويمسح على شعرها القصير، فتموء وتخربش.. حتى علمت زوجة العجوز، فهددت: إما هي أو قطة الشوارع.. ورحل الأب مرة أخرى، وكان الفراغ هذه المرة ككلب مسعور.
لم تندهش، تقبلت الأمر عندما رحلت أمها إلى السماء.. وكان سطوع الشمس دافئًا ومريحًا، وزقزقات العصافير تعزف موسيقى هادئة، عندما تأبطت رسغ الشيخ في ميدان رمسيس.
ثم ابتسمت ابتسامة هادئة بلا معنى.. شعرت بأنها اكتشفت فجأة شيئًا لا يُحكى، شيئًا لا يلزم أن يُقال، فقط أن يُشعر.. كأن الزمن طيّة من قماش ثقيل، وكل لحظةٍ فيه كانت مجرّد طية أخرى على امتداد الحكاية ذاتها، حكاية بدأت قبلها بزمن، وستستمر بعدها بزمن، لكنها الآن تعيشها، للمرة الأولى، كما يجب.
أغمضت عينيها قليلًا، وفتحتها على وجهها في زجاج القطار.. رأت نفسها، كما لم ترها من قبل.
*كاتب من مصر.
التعليقات