مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

ربى البردي* مطار الملك خالد الدولي، قبيل الظهيرة.. تسير في الممر الزجاجي، الذي ي …

لقاء أخصائية

منذ أسبوعين

37

0

ربى البردي*

مطار الملك خالد الدولي، قبيل الظهيرة..
تسير في الممر الزجاجي، الذي يتنقل بعجلة فوق أرضية هبوط وصعود الطائرات، ليضم الباب الضئيل البيضاوي المكتظ بالبشرية، الذين ينوون الخلود إلى أسرّتهم الباردة، تحت سقف منازلهم التي تقيهم من زوبعة الحرارة في الرياض.
بيدها حقيبة سفر صغيرة، تتعوّج وتهبط إذا ما ذهلت في هيكل الزجاج تارة، أو إذا أبصرت البساط الزرقاوي، المزركش بأهرامات متعددة، أفتح من لون السماء التي خارت بها لساعة على نافذة الطائرة.
كأنها تساق إلى استلام جائزة وطنية، أو تعميد انتخابي لمجلس الشورى.
وهي تتخطى كبار السن الذين يرتدون الأشمغة البيضاء ببطونهم الممتلئة، تعتقد أنهم رواد أعمال وهم يتهامسون.
تتبعهم حتى تتجاوز السلم الكهربائي، تمضي إلى أسفل الحقيقة، أسفلها.. ثم تتفاجأ بالساحات الواسعة واللوحات الإرشادية المتدلية من السقوف، والمصابيح البيضاء التي تميل إلى الرخامية.
لم تكن مشعة أكثر من قلبها، الذي يتطلع للقاء بأخصائية، هربًا من الموجود، إلى الوجود..
وتفضي إلى اليسرى، ثم الميمونة، في الممرات العديدة للمطار الفارغ، لكنه لم يملأ نفسها للشعور بالدونية، ليس بعد… 
تشعر بالبرد من أجهزة التكييف الخفية، التي تجففها من كل رطوبة، فتضم رجليها أمام مصلى النساء في انتظار الأذان، وقائد الطائرة الذي يسير بقربها، يحدق مستنكرًا؛ لأنها لم تمقل صورته وهي فاغرة فاها.
وتارة ترفع عجلة حقيبتها، لتدخلها إلى المساحة المربعة لكرسي المرحاض، ثم تعاون امرأة منقبة بجذب المناديل من الآلة المستشعرة، فتبسط يدها نحوها، وهي موقنة أنها ستلتقي بأمها، أمها الأم المنقبة… 
تستشعر الآلة الحماسة التي تدبّ في خطوط راحتها، فتلقي بكمية المناديل، وهي تحدّق بالمرأة.. تلمّ منه العشر، وتحشوه داخل حقيبة يدها المهترئة.. وبقايا الماء من الشطاف وممسحة عاملة النظافة تتعجّل إلى جانبها، نحو مهجع الحقائب الكبير لاستلامها من جوف الطائرة.
تتمنى لو أن الحياة لم تخنها إلى هذه الدرجة، وأن عائلتها الحقيقية تلك، والأم التي أنجبتها، يبحثون معها عن الحقائب لتستعد لرحلة سياحية لا تنسى في العاصمة.
ويمضي الوقت، ومكائن التكييف تجمد كل حماسة، وكل وله، وكل شُعيرة.
وهي تنتظر تلك الأخصائية لأن تستجيب، وتتردد في التطفل بمكالمتها على أحد تطبيقات التواصل.
تفتح برنامج الذكر المحجوب بإعلانات لمواقع بيع بالتجزئة.
تقرأ ربعًا من سورة البقرة، ثم تهلع، والنصف من ياسين، ثم تتوقف… 
تدعو لتلك الأخصائية أن تمتثل، لتضم كاهلها الرقيق الملطّخ بندب الأُسر الممزقة.
وهي تنتظر، تهز ساقيها بقوة، تشفط السيول من ثقوب أنفاسها حتى تمزق الحدود بالفرك، فتتساقط كتل الجلد البيضاء الرفيعة على منديلها.
بعد مرور سبع ساعات، أو سبعة قرون، من خلقها قبل تسعة عشر سنة.
تتجول في تغريدات الأخصائية الافتراضية، تظهر تغريدة جديدة، بعد اختفاء السهم الدوار في الأعلى.
تعلن عن خبر وفاة الأخصائية، دون إشارات، أو تنويهات مسبقة.
وتستنج لم لا ترى الأخصائية النفسية مذكراتها الأخيرة في صفحة الدردشة الخاصة بهما، صورها، حتى صوتيات ضحكاتها الطفولية.

والإيميلات تشير إلى العودة، من خطوط الطائرة السعودية.
والساعة تنذر بالسادسة، وتنسى أن تهم إلى المصلى وتجمع المغرب بالعشاء، أو تتوضأ قبل أن تجلس إلى مقعد الدرجة الاقتصادية.
وهي تشعر بالمل أكثر مما فعل المطار بتزاحم المسافرين في أوقات الذروة.. الملء بالدونية، الملء بعدم الأهلية، لأن تُحِب وتُحَب.
وقد قذف والدها كأس الشاي نحو والدتها بعد إفطار يوم الجمعة، دون سبب واضح.
وهي تقذف نفسها باللعن والشتيمة، لأنها لم تتوقع الموت، أو أن يموت من كان واجبه تهدئتها لنصف ساعة في جلسة إلكترونية، بلا مقعد إسفنجي، أو طاولة سوداء عتيقة.
فقط صوتها الرؤوم الخجول، ومواعظها الأمومية التي لم تحظ بها مع أم مهزومة.
تركب الطائرة، دون الحاجة لممر زجاجي، فقط سلالم شاهقة، دون حواجز آمنة، توشك بسقوطها في أية لحظة.
تجلس بجانب امرأة وابنتها، على طرف ممر المضيفة التي تدفع كتفها وتعتذر باللكنة الفلبينية.
تطفو الطائرة فوق أبراج الرياض التي لم ترها إلا من مقعد النافذة في رحلة الذهاب.. مبتسمة.
هي الآن بالكاد تكتم دموعها، تحاول التفكير في العواقب وكيف ستنجو، قبل أن يكتشف والدها الدافع من عدم عودتها إلى المنزل حتى هذه الساعة.
المضيفة تجر صندوقها المعدني، تطلب منها الاختيار بين البيتزا والمافن الككاوية.
ترفض ذلك، معتقدة أنها ستدفع المزيد من مكافأتها الجامعية الزهيدة.
وتتأمل المسافر الذي يجلس في المقدمة شمالها، يقتطع جزءًا من العجينة الإيطالية الطرية.
توشك الطائرة على الهبوط، يستقر المضيفون في مقاعدهم، الإضاءات الخافتة على الهوامش تبدد، ما عدا تلك التي تبرق مثل نجمة في جناح الطائرة.
كأنها الأنسية التي فُقدت قبل أن تستنشق دفء عباءتها، أو تُشكل معالمها من خلف نقابها المنسدل بعد أن كانت ضبابية في ذاكرتها.
هكذا، تبكي، لتلألأ دموعها أفق الطائرة لطاقم القيادة.
وتلتفت السيدة إليها، لكنها لا تتحدث، وتكتفي بتطويق بصرها في شاشة المعلومات الجوية على بعد ثلاثة مقاعد منهن.
باقة من الزهور القرمزية، تدخلها بحرص في جيب المقعد، ثم تحتضن ابنتها النائمة على كتفها.. والفتاة تبكي، ثم تصرخ لأنها ماتت قبل أن تموت بجانب الأخصائية.

 

*كاتبة من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود