الأكثر مشاهدة

مراد ناجح عزيز* التزم الجميع أماكنهم، انتظارًا لاستقبال حادثة لإطلاق نار، صوت سي …

تحت سماء واحدة

منذ يومين

11

0

مراد ناجح عزيز*

التزم الجميع أماكنهم، انتظارًا لاستقبال حادثة لإطلاق نار، صوت سيّارة الإسعاف اقترب كثيرًا ليؤكّد أنّها على وشك الوصول لبوّابة المستشفى، الجميع في حالة ترقّب، ثمة أحاديث جانبيّة عن كونها إحدى حالات ثأر قديم ربّما، أم تُراه احتدام خلاف على ميراث، أراد أحدهم أن يستأثر بنصيب الأسد منه دون وجه حق، أو ربّما هي طلقة طائشة لأحد المدعوّين، أراد أن يُعلن عن جَم فرحته بليلة الزّفاف، وما دفعته إليه مشاعره في تلك اللحظة، فراحت تعانق السّماء كتيبة من الطّلقات، تناثرت لتستبيح أعشاش الطّيور الآمنة وأسطح المنازل شرقًا وغربًا، ترمّدت الأضواء حينها، وانزوى صوت دقّات الطّبول، مُخلّفة وراءها وطنًا تركته الحياة لمتّسع من الظّلمة.

حالات كر وفر، محاولة يائسة لإنعاش القلب، هذا ما أكّده طبيب الجراحة بمجرّد خروجه: (البقاء والدّوام لله) دقائق لا أكثر، حتى اتّسعت رُقعة المكان تعُج بشتّى ألوان البشر، احتدام كلمات ربّما كانت لأحد حضور حفل الزّفاف متمتمًا: لم يكن هُناك داعي لطلقات النار في الهواء بشكل ارعن، ومنهم مَن سافر بكلماته بعيدًا يبحث عن نهاية أخرى، إذ كان من الممكن ألا يمر بذلك الطّريق في تلك اللحظات مثلًا، أو أنه أجّل بعض احتياجات طفلته للغد، انفعالات هُنا وسُباب هُناك، حاول البعض اقتحام غُرفة الاستقبال، لمعرفة ما يحدث، إلا أن وجود رجال الشّرطة حال دون ذلك، احتقن وجه السّماء، أكف تلاطم بعضها امتعاضًا، ونهر دموع يعتصر القلب حسرة، يُرثي لحال ذلك المُسجّى دون إثم، إلا أنّه خرج ليلًا لشِراء بعض احتياجات طفلته (لبن، ودواء لعلاج تقلّصات المعِدة، وبعض اللفافات) لطالما كان من الصّعب قضاء ليلة دونها، أشار ضابط الشّرطة بنقل الجثّة إلى ثلّاجة الموتى (المشرحة) للوقوف على أسباب الوفاة واستكمال التّحقيق.

انتقل فريق من الطّب الشّرعي وبعض رجال المباحث لمقر عملي، يتقدّمهم منضدة حديديّة، يدفعُها أحد العمّال، تعلوها جُثّة ذلك المجهول، سريعًا ارتديت قفّازًا وسُترة بلاستيكيّة خشية تلوّثي بدمائه النازفة، استجمعت بعض قواي الهاربة، أكاد أعتصر قلبي بيدي حتى يتوقّف عن ارتعاشه، أبحث في دفتر الكلمات عن ذلك الثرثار فلا أثر له، ذكّرني ذلك بلحظات هي أشبه بموقفي الآن، منذ سنوات كانت زيارتي للقاهِرة لاستلام شهادة إنهاء الخدمة العسكريّة، وداخل إحدى حافلات النقل الدّاخلي، التزمت مكاني واقفًا لم أبرحه، لا لشيء سوى ترقُّب الوصول للمحطّة التالية، أحاول المرور وأن أُفسح لنفسي طريقًا، تكّدس البشر لم أعهده من قبل، أخشى التفاتتي يُمنة أو يُسرة، ربّما كان في ذلك أن يراني أحدهم مُتحرِّشًا أو لصًا، وإذا بصفعات وسُباب وركلات ينوء بحملها جسدي، عشوائيّة الزّحام جعلت من مروري سالمًا أمرًا في غاية الصّعوبة، وعن غير قصد دَهست أقدامي أصابع رجل خمسيني أنيق، نهرني ببعض كلمات لدرجة اتهامي مجازًا بالعَمى: (انت ما بتشوفش) اعتذرت له رغم ما هالني من جحوظ عينيه واقتضاب وجهه، توقّفت الحافِلة، لكنها الرياح تأتي بما لا تشتهي السّفن، خطأً هبطت إلى المحطة قبل الأخيرة، دسست يدي في جيب بنطالي، لم يعد كافيًا ما لديّ كي أستقل سيّارة للمحطّة التالية، أنا لا أقبل أن أمد يدي لأحد، فربّما أشاح بوجهه متمتمًا: (روح دوّر على شُغل) وربّما ظن أحدهم أني مدمن واعتاد على فِعل ذلك لشراء احتياجاته من المخدِّرات، أحاول امتصاص غضبي، ساعات لا أعرف عددها، تصببت عرقًا كلّما امتد الطريق ولم يكن هناك بادرة أمل قريب، لا مجال إذًا للتراجع أو وجود ما ينوب عنّي، أحكمت غلق باب الغُرفة، لأجدني وحيدًا هنا، تحت سماء واحدة تجمعُني وجثّة لا حراك فيها، متعجلًا أتخبّط في أداء مُهمّتي، يدفعُني الفضول لمعرفة ما يستتر خلف ذلك الغِطاء، أي وجهٍ تُرى؟ هل هو لشخص أعرفه؟ ولِمَ لا؟ في مدينتا الصّغيرة لا وجه يخفى عن الآخرين، إلا أن يكون غريبًا وقادته قدماه للمرور من تلك المنطقة، تُراه مبتسمًا وقد فارق قسوة ما يُعانيه همًّا وضيقًا؟ أو أنّها ملأت وجنتيه دموع تأخره باحتياجات طفلته؟ ما زال يدفعُني الفُضول، أتراجع سريعًا عن فكرتي، أنظر لصورة الأشعّة في يدي، وإذا بأصابع خشنة بطرقاتها على الباب، استعجالًا منها لإنهاء مُهمّتي، ليدلف إلى الدّاخل الطبيب الشّرعي الذي أفاد بوجوب كشف وجه القتيل، وما إن فعل، دارت الجدران والأشخاص من حولي، كلُعبة دوّارة في ملاهي تعلو صيحات الأطفال داخلها فرحًا، وقد غاب الزّمان والمكان، لأسقط مغشيّا عليّ، بمجرّد أن عاينت خلف اللفافة البيضاء وجهي.

*كاتب من مصر

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود